تخيل لو أن بينك وبين أحد الإخوة خلافاً فكرياً تحول إلى خصومة شخصية تراها تمس في عقيدتك أو تقدح في شخصيتك، وقد شاء الله لك الفرصة الكاملة في موضع ٍما للرد عليه وتعرية منطقه وتسفيه تفكيره ولكنه لحظتها غير موجود. هل تفعلها وترد بما تراه حقاً لك أم تتخلى عن هذه الفرصة الذهبية وتتعامل بإنسانيتك وتسمو
بأخلاقك؟ ببساطة هذا ما حدث مع الشاعر الكبير والوزير القدير غازي القصيبي يرحمه الله رحمة واسعة، فتاريخه المشرق بالمواقف النبيلة والإسهامات الإنسانية يشهد بأنه عاش هذا الموقف الإنساني ومارس هذا التصرف الأخلاقي، ولم يستغل الفرصة بخبث أو يفجر بالخصومة لأنه يعرف قدر نفسه قبل غيره، وكان ذلك عندما كان سفيراً للمملكة في بريطانيا، ففي إحدى المناسبات سُئل القصيبي عن رأيه باعتقال بعض الدعاة والمشايخ ممن كان بينه وبينهم خصومة! فلم يستغل الموقف بإعلانه تأييد القرار أو مباركة هذه الخطوة، أو ينتهز هذه الفرصة بالتصفيق والشماتة من باب استحقاق أولئك المشايخ لها، إنما قال كما هي عادة الكبار: (لا يصح أن نتكلم عنهم ونحن هنا في هذا المكان وهم هناك في مكان آخر).
لذا تمنيت لو أن ذلك الأخ المحتسب الذي قال لوزير العمل محذراً له خلال لقائه بمجموعة من المحتسبين: (دعوت على مسؤول بارز في الوزارة بالمرض فأصيب به فتوفاه الله)، وكأنه يخصص بأنه دعا على غازي القصيبي بالسرطان، وزعم أنه مات فيه. أقول ليته امتنع عن هذا الموقف غير الإنساني، الذي لا ينسجم مع الهدي النبوي الكريم، وأن يكون رفيقاً بأخيه المسلم ويترحم على غازي ويطلب له المغفرة، أو على الأقل أن لا يذكره بشر أو خير، فلا تفاخر ولا شماتة ولا تشفي في ثلاثة أمور: (الموت والمرض والمصيبة)، وقبل ذلك هو مسلم أولاً وأخيراً وليس عدواً، وهو الآن بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور سبحانه وتعالى، كما أن من يفاخر أنه يدعو عليه بالمرض وعظائم الأمور فليعلم أن هناك آلاف وربما ملايين من المسلمين الذين يدعون له بالرحمة والمغفرة، ويذكرون إنجازاته الوطنية وأعماله الخيرية الجليلة ومواقفه الإيجابية، وتعاملاته الإنسانية.
ما سبق يدعوني إلى مراجعة حال الاحتقان الاجتماعي بسبب الاحتراب الفكري بين أشخاص وتيارات على مستوى مجالات التنمية، حتى جعلتنا نفجر بالخصومة دعاءً على بعضنا بالأمراض والأسقام وكأننا ندعو على أعدائنا، والمصيبة عندما يتم تبرير ذلك بأنه دعاء على الظالمين، دون أن يتم تحديد هذا الظالم أو التعريف بطبيعة هذا الظلم، رغم أنه لا يخرج عن خلاف فكري في تفسير الرؤى الشرعية تجاه قضايا اجتماعية عصرية ذات مسائل دينية خلافية (اجتهادية) وليست قطعية كعمل المرأة في المحال التجارية (تأنيث المحال النسوية)، فضلاً عن أن الخلاف في طبيعة هذا العمل ليس مرتبطاً بمبدأ العمل إنما في طريقة تطبيقه ومراقبته، وهو ما عبّر عنه رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ الفاضل عبد اللطيف آل الشيخ عندما طالب وزارة العمل بمنع الرجال منعاً باتاً من العمل في الأماكن المخصصة للمرأة، وأن تكون الوظائف التي تخدم المرأة محصورة بالنساء فقط.
وعليه ينبغي أن لا تصل طواحين الخلاف بيننا حول قضايا أو آراء تمس أخلاقنا أو تدخل في تفاصيل حياتنا إلى النوايا التي لا يعلمها إلا الله فتفرمها بألسنة حداد ونفوس صلاد، كأن نرمي بعضنا بتهم الظلم الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي، فيكون مبرراً للمندفعين بالاحتساب إلى الدعاء بالأمراض أو الموت. لأن حقيقة النوايا من الغيبيات، وليس لنا إلا ظواهر الأمور، التي يمكن الحكم عليها بنتائجها على أرض الواقع، ومواجهة سلبياتها من خلال القضاء الشرعي عبر القنوات الرسمية ووفق الأنظمة المستندة إلى المرجعية الدينية لهذا البلد العظيم.
moh.alkanaan555@gmail.comتويتر @moh_alkanaan