نعود للحديث عن الأندلس والأندلسيين، فما أغيب عن ذلك الغصن الرطيب حتى أعود أدراجي إليه، أقطف من زهره الذي أزهر، ومن شجره الذي أثمر، فأعجب من زهرة لا تذبل، ومن شجرة لا تشيخ وتمحل، حتى وأن درست مدينة الزهراء التي بناها الخليفة عبد الرحمن الناصر، أو اندثرت الزاهرة التي عمرها الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، وقد قال قائلهم في حديقة رآها فوصفها ومن ذلك قوله:
وحديقة مخضرة أثوابها
في قضبها للطير كل مغرد
والجدول الفضي يضحك ماؤه
فكأنه في العين صفح مهند
ومن ذلك ما كتبه شاعرهم وناثرهم أبو إسحاق بن خفاجه ضمن رسالة في ذكر منتزه حيث يقول في قطعة منها: «فاحتللنا فيه قبة خضراء ممدودة أشطان الأغصان، سندسية رواق الأوراق، وما زلنا نلتحف منها ببرد ظل ظليل، ونشتمل عليه برداء نسيم عليل، ونخيل الطرف في نهر صقيل، صافي لجين الماء، كأنه مجرة السماء، مؤتلق جوهر الحباب، كأنه من ثغور الأحباب».
وكأني به وقد وصف تنزهه مع أصحابه عند اكتمال السحاب، وانقشاعه بعد أن أسقط ماءه، بعض قاطني مملكتنا الحبيبة الذين لا يكادون يرون سحابا ناشئا، وجونا بارقا، ورعدا هادرا، حتى يسارعون إلى البراري ينتظرون المطر، وبعد حين يهنأون بكل ما هو أخضر، ولنترك ابن خفاجه الأندلسي يصف لنا شيئاً من ذلك حيث قال:» ولما أكبّ الغمام إكباباً، لم أجد منه إغباباً، وأتصل المطر اتصالاً، لم ألف منه انفصالاً، أذن الله للصّحْو أن يُطلِع صفحته، وينشر صحيفته، فقشعت الريح السحاب، كما طَوى السجلُّ الكتاب، وطفقت السماء تخلع جلبابها، والشمس تحطّ نقابها، وتطلعت الدنيا تبتهج كأنها عروس تجلّتْ، وقد تحلّت، ذهبتُ في لُمّة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضا، ونطوي للتفرج أرضاً، فلا ندفع إلا غدير، نمير، قد استدارت منه في كل قرارة سماء، سحائبها غمّاء، وانساب في كلّ تَلْعَةٍ حُباب، جلده حَبَاب، فرددنا بتلك الأباطح، نتهادى تهادي أغصانها، ونتضاحك تضاحك أقحوانها، وللنسيم، أثناء ذلك المنظر الوسيم، تراسل مشي، على بساط وَشْي، فإذا مر بغدير نسجه دِرعاً، وأحكمه صُنعا، وإن عثر بجدول شَطَبَ منه نصلاً، وأخلصه صقلاً، فلا ترى إلا بطاحاً، مملوءة سلاحاً، كأنما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول، وسيف مسلول.
بعد أن قرأنا ما قاله الخفاجي، ونحن نعلم أن هذه الأيام أيام صفاء، وربيع ونقاء، يجتمع في مثلها الأحباب، وترق النفوس والألباب، ويغرد الطير على الدوح، ويحل الوجد والبوح، وتلين سهام القلوب، لمحب يداوي العيوب، وكأن لسان الدين بين ظهرانيا ينشد شعره ويقول:
خذها وقد وضح الصباح ولاحا
والروض يُهدي عَرْفَهُ النفَّاحا
ما زال يكتم من حديث نسيمِهِ
والآن أمكَنَهُ الحديثُ فباحا
لمَّا رأى جيش الصباح مُشَمِّراً
عَمَّتْ مضاربُهُ رُبى وبطاحا
والأفقُ يرفعُ منه بَنْداً مُذْهباً
ويَسُلُّ من بيضِ البُروقِ صفاحاً
سلَّ الجداولَ أنصُلاً مصْقولةً
تبدو وهَزَّ منَ الغُصونِ رماحا
والزهر تسقط للغروبِ كما ذَوى
زهرُ الرياضِ وفارقَ الأدواحا
والطيرُ يدعو للصبوحِ مُكرّراً
فتراهُ قد نفض الجناح وصاحا
فكأنما الظلماءُ طرفٌ أدهمٌ
أخذ العنانَ فما يُفيقُ جِماحا
لا توقدِ المصباحً واعْلم أن لي
من وجهِ مَنْ أحببتهُ مصباحا
والقصيدة طويلة، اخترنا منها ما يناسب المقال، أنقل ما نقلت، لأبتعد عن واقع حال هذا الزمان، المليء بالأحزان، فقد توعرت مسالكه، وكثرت مهالكه، وتباينت دروبه، واختلطت محاسنه بعيوبه، فأضحى التفريق بين الحق والباطل، أصعب مما مضي في سالف الأزمان، لأن المشارب قد تناثرت تناثر النجوم في السماء، واستهدفت الآذان السامعة والصماء، واستشعرت الأعين واستنطقت الألسن، فسبحان المانح لأهل هذا الزمان هذا الكم الهائل من الأسباب.
من نظر إلى التلفاز، أو سمع المذياع، فلا ريب أنه لن يرى من المسرات إلاّ النادر، ولن يسمع في الأخبار إلاّ كل مؤلم صادر، فما أروع أن ننقل شيئاً من المباهج، ونتحدث عن الروض والزهور، والحب ونفحات العطور، لا سيما أن أغلب الأخبار المحزنة تقع في عالمنا الإسلامي، يصطلي بنارها شعوب في أغلبهم ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، لكنهم حطبها، انساقوا أو سيقوا إليها دون دراية منهم، فلعل الله أن يعيد المسلمين إلى سالف مجدهم، وقديم عزهم، وأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يتغيروا، وأن يحفظ علينا أمتنا، وأن يرفع من شأنها، إنه سميع عليم وبالله التوفيق.