لن يستزلَّني سلْقُ الألسنة الحداد، ولن تُزلقني حملقة الأبصار المريبة. وسأظل على الرغم من كل التداعيات المؤلمة محترِماً لفخامة الأمين العام للأمم المتحدة [بانكي مون] لمكانته العالمية، وإن جار في تصرفه، وضَنَّ على المستضعفين بكلمة الحق،
وجنح إلى الأقوياء، يتملقهم، ويداريهم. فهو الأحرص على بقائه على سدة مسؤوليته الأممية. فله في سلفه [بطرس غالي] موعظة، و[العاقل من وعظ بغيره].
فالأمين السابق عندما سُئل عن سبب إخفاقه، وخروجه من الأمانة، قال:- إنني لم أتقن أسلوب التعامل اللائق مع [الولايات المتحدة الأمريكية]، ولم أقدرْها حق قدرها. مشيراً إلى أن شرط البقاء في هذا المنصب الباذخ، يتطلب الوفاق مع هذا الأخطبوط، وغض الطرف عن تجاوزاته، وتعدد مكاييله.
ومثل هذه الخليقة مخلة بالأمانة، موهنة للعزمات، ومدنِّسة للشرف. ولكنها قد تكون ضرورة عند المصلحيين، الذين يُؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. وما حيلة المضطر إلا ركوب المكاره.
غير أن الأمين القائم بنقده المعلن للقصاص من العاملة [السيريلانكية] [ريزانا نافيك] في غنى عن مثل هذا المقترف المخل بشرف المهنة. إذ لا تنقصه الأضواء، بحيث يطلق مثل هذه المفرقعات الفارغة، ولا تنقصه المشاكل التي يشيب من هولها الوليد، بحيث يبحث عن مثل هذه القضايا الهامشية، التي لا تعني مثله، والتي كُفِيَ مؤونتها. وأمريكا التي يخافها، ويتزلف إليها بالتملق، متصالحة مع المملكة، مطمئنة على سلامة تصرفاتها الحقوقية.
ولربما أنه بذلك الخطل، يود كسب الرأي العام العالمي، وذلك بإيهامه أنه يفيض بالإنسانية، وأنه متيقظ لأي مقترف لا إنساني، يُمَارسُ في الكون البشري.
لقد كان مثله في غنى عن مثل هذه الإثارات السخيفة، فالمملكة العربية السعودية تتقي الرأي العام تقاة، وتزن تصرفاتها بِكُلِّ دقَّة، وهي أبْعَد ما تكون عن المساس بالقيم الحضارية، وأزهد الدول في ممارسة الأعمال المستفزة للآخر، أو المسيئة لسمعتها. فهي دولة مسالمة، تدفع بالتي هي أحسن، وتستخدم القوة الناعمة، لاحتواء الآخر، أو تحييده، وتحرص على صناعة الأصدقاء.
وكيف يبيح [بانكي مون] لنفسه نقد تصرف قانوني، مستمد من شريعة سماوية، يؤمن بها السعوديون كافة، ويَعُدُّون تنفيذ أحكامها من أصل عقائدهم، ومن مكملات عباداتهم. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 50]، والتصريح الذي أشاعه الأمين العام عبر مكتبه الإعلامي، يُعدُّ تدخلاً سافراً في سيادة دولة مستقلة، وعضو في هيئة الأمم المتحدة، التي يرأسها.
والمملكة حين تعلن دستورها، وتحدد مصدره، وتقر قانونها، وتفصل أحكامه، وترتضيهما لنفسها، وتقبلهما للأمة، يكون لِزاماً على كل دولة حرة، وكل مسؤول أممي القبول بمقتضياتهما، إذ لا تكتمل سيادة الدولة، ما لم تكن حرة في تنفيذ أحكام قوانينها.
وهل تسمح [الولايات المتحدة الأمريكية]، وسائرُ الدول الخمس الدائمة العضوية في الهيئة، ومن دونها من دويلات العالم الثالث لرجل مثل [بانكي مون] أن يتدخل في شؤونهم الخاصة، أو أن يستنكر عليهم تطبيق قوانينهم؟.
والمملكة العربية السعودية تعلن عن أنظمتها وقوانينها، وتمارسها في رابعة النهار، ولا تدسُّ شيئاً منها في التُّراب. وكل قادم إليها، إنما يأتي إليها بمحض إرادته، وعليه أن يقبل بأنظمتها وقوانينها، وأن يطمئن لقضائها، وأن يثق بقضاتها. وإذا رابه أمرٌ فليأت البيوت من أبوابها. بحيث يقيم المحامين، أو يطلب اللطف في الأحكام. وقد فعلت الحكومة [السيريلانكية ] ذات الشأن، حين تقدمت على لسان رئيسها، مطالبة بتخفيف الحكم، ظناً منها أن أمر القصاص بيد الدولة، ممثّلة بالملك، وما درت أن الشريعة الإسلامية لا تقبل الشفاعة في الحدود، وأن القضاء مستقل، لا سلطان لأحد عليه، وأن القصاص حق لولي أمر القتيل المغدور. فالله يقول {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء :33] فإن طلبَ ولي الدم القصاص، فلا يستطيع أحدٌ تخليص المحكوم، لا ملك، ولا أمير، ولا وزير.
والحكومة [السيريلانكية] حاولت جاهدة تخفيف الحكم، وهذا حق من حقوقها، وولي الأمر من حقه أن يطلب من ولي القتيل أن يتنازل عن القصاص، ولكنه لا يملك إكراهه على التنازل، وحين يصر ولي القتيل على القصاص، فلا مناص من تنفيذ القصاص، وهذا ما حصل.
لقد أشار بيان الدولة الاستنكاري إلى أن الدولة حاولت جاهدة إقناع ولي القتيل بالتنازل عن حقه. وكم كان بودنا استجابة ولي الدم، وعتق رقبة العاملة. فالأمة لا تريد مزيداً من الإزعاج، ولكن ذلك لم يحصل، فكان أن نُفذ القصاص ومن ثم [سبق السيف العذل].
والمملكة بتنفيذها للقصاص، لم تظلم، ولم تعتد، ولم تخالف الأعراف الدولية. وكل دولة مَدَنِيَّةٍ لديها دستورها، وقانونها، وأنظمتها. ولا يجوز لكائن من كان أن يعيب عليها تنفيذ الأحكام الصادرة من محاكمها، ما دامت متمشية مع ما تعلنه من قوانين.
فالمملكة بمثل هذا الحكم، لم تُفاجئ العالم، ولم تكن بدعاً من الأمم. وتدخل [بانكي مون] بهذا الأسلوب، وبتلك الطريقة وصمة عار، تلحق بالمنظمة، التي يفترض فيها مباركة العدل، والمساواة، وملاحقة المجرمين، وقطع دابر الجريمة، وأنصاف المغدور، وتنفيذ ما تقتضيه القوانين السائدة.
يتبع..