قبل عقد من الزمن تقريباً دُعيت للمشاركة في مهرجان حائل الصيفي، فأعددت محاضرة بعنوان (المسنون في الشعر العربي القديم) كان أساسها ورقة علمية قدمتها في ندوة عن المسنين أقامتها وزارة الشؤون الاجتماعية عندما كان الدكتور على النملة وزيراً لها، وكان عنوان تلك الورقة (بعض الخصائص الاجتماعية والنفسية للمسنين:
دراسة في كتاب (المعمَّرُون) لأبي حاتم السجستاني)، وكان السجستاني قد ترجم لحوالي مائة مسن عاشوا تسعين سنة أو أكثر، وبعضهم عاش مئات السنين، وكان معظمهم شعراء وأصحاب رأي، فقمت باستخلاص خصائصهم النفسية والاجتماعية من أقوالهم وأشعارهم، وأثناء إعدادي للمحاضرة عدت لبعض الدواوين، واستخدمت الموسوعة الشعرية الإلكترونية للبحث عن أشعار تتحدث عن الشيخوخة وظروفها والأحوال المحيطة بها، أعددت المحاضرة وطبعتها، وأخذت نسختها المطبوعة معي واتجهت من زهران إلى الرياض، وفي اليوم التالي توجهت إلى حائل، وفي الجو أنزلت حقيبتي اليدوية، وأخذت المحاضرة منها لمراجعتها ثم أعدت الحقيبة إلى مكانها، وبعد أن قرأت معظم المحاضرة جاء عامل الطائرة لتوزيع الصحف، فوضعت المحاضرة في الجيب الذي أمامي، وبدأت أقرأ في الجرائد، وبعد فترة أعلن عن الاستعداد للهبوط، ربطت الحزام، وتهيأت مثل غيري للهبوط، وقد كان المنسقون للمهرجان قد أخبروني أنني عندما أنزل في مطار حائل سأسمع اسمي في مكبرات الصوت، أو أجد شخصاً يحمل لوحة عليها اسمي، وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فعلي أن أستقل سيارة أجرة إلى شقق الفاخرية الجديدة في حي التلفزيون، تناولت حقيبتي اليدوية، وغادرت الطائرة وكلي آذان صاغية لأسمع من ينادي باسمي، ولكن ذلك لم يحدث، ثم أخذت حقيبتي الكبيرة وخرجت إلى بهو الاستقبال ولم أجد أحد يحمل لوحة عليها اسمي، فتوجهت إلى موقف سيارات الأجرة، وجدت رجلاً شمالياً مميلاً عقاله عليه ابتسامة وفيه أريحية، فقلت له: أريدك أن تأخذني إلى شقق الفاخرية الجديدة في حي التلفزيون، فقال: أنا من أهل حائل، وهناك شقق باسم الفاخرية تم افتتاحها قبل ستة أشهر، وفي حي قريب من حي التلفزيون، وهي جديدة ولا أعتقد أن هناك شققاً غيرها، فوافقته فأهل مكة أدرى بشعابها، أوصلني أمام تلك الشقق وتسلم أجرته وغادر، كانت الساعة قد تجاوزت بقليل الساعة الحادية عشرة صباحاً من يوم الجمعة، دخلت بهو الاستقبال وعرَّفت الموظف بنفسي، وأنني أتيت للمشاركة في مهرجان حائل الصيفي، فأخبرني أن حجزي في الفرع الآخر في حي التلفزيون، فطلبت منه أن يستدعي لي سيارة أجرة، فقال بأن سيارات الأجرة لا تأتي إلى هنا، وخاصة في مثل هذا الوقت من يوم الجمعة، وفي هذه الأثناء كان هناك رجل في الخمسينات من العمر له سمت وعليه وقار، ويحمل بشته على ذراعه ينزل مع الدرج ذاهباً لصلاة الجمعة، فقابلته وصافحته وطلبت منه أنيوصلني إلى الفرع الآخر في حي التلفزيون، فأخبرني أنه لا يعرفه، فطلبنا من الموظف، وكان مصرياً، أن يصف لنا الطريق، ففعل، وفي السيارة عرفته بنفسي، فما كان منه إلا أن عرفني بنفسه وأنه اللواء عبدالله الرشود من شرطة المدينة المنورة، فسألته إن كان من أهل حائل؟، فأجاب بنعم، فقلت له: لماذا تسكن في هذه الشقق؟ أليس لك بيت؟ فقال: بلي، ولكننا أجرناه، فقد كنا نأتي بين فترة وأخرى ونقضي معظم وقتنا في تنظيفه، ووجدنا أن الأفضل أن نستفيد من أجرته، وإذا أتينا نستأجر ببعض عائده ونستريح من العناء والوقت الذي نقضيه في تنظيفه، فقلت له نعم ما فعلت، وشكرته على إيصالي، وفي الفرع الثاني من الفاخرية وجدت أنهم حجزوا لي شقة، وأخبرتهم أنني سأصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً، وسأستريح إلى الساعة الثانية ثم أتناول الغداء. لم أكد أستقر في سكني حتى رن الهاتف، لقد كان صاحب سيارة الأجرة الشمالي صاحب العقال المائل، عاد إلى المطار وسأل عن شقق الفاخرية الجديدة في حي التلفزيون، فأخبروه بأمرها، فما كان منه إلا أن عاد إلى حيث أنزلني، وسأل عني وأخبروه أن شخصاً أوصلني، فجاء بنفسه ليعتذر، وليعرض علي رد المبلغ الذي أخذه..!! شكرته وعرضت عليه أن أعطيه زيادة مقابل هذه الروح وما تجشمه من تعب ليكفر عما اعتبره خطأً، وبعد تناول الغداء اتصلت بمنسقي المهرجان وطلبت أن يرسلوا لي شخصاً يأخذني في جولة على حائل، فهذه هي زيارتي الأولى للمدينة العريقة، وموعد المحاضرة سيكون بعد العشاء وهناك متسع من الوقت، فأخبروني أن الأخ ناصر سيصل إليَّ بعد ساعة، في هذه الأثناء رغبت في مراجعة محاضرتي، فذهبت إلى حقيبتي اليدوية، وهناك تذكرت أنني نسيت المحاضرة في جيب الطائرة..!! صُدمت!!، وأخذ العرق يتصبب مني!!، وبعد أن ذهبت الصدمة أخذت أفكر في البدائل، وبدأت أضع بعض العناصر لحديثي، وقررت أن يكون الحديث عن الشيخوخة والتقاعد وحياة كبار السن قديماً وحديثاً، وقررت أن أخبر الحضور بما حدث لي من موقف طريف وارتاحت نفسي لذلك وهدأت. وصل الأخ ناصر وكان رجل أعمال ومن المشاركين في إدارة المهرجان، وركبنا سيارته وكان معي اثنان من الشعراء الشباب الذين شاركوا في أمسية للشعر الشعبي في الليلة السابقة، فأخبرتهم بأمري وبالموقف الطريف الذي مررت به، فقال أحدهم: ألا يوجد أحد يرسلها لك بالفاكس؟ فلفت نظري إلى مخرج، اتصلت بابني بدر في الرياض، وكان يتدرب من قبل معهد الإدارة في إحى المؤسسات، وطلبت منه الذهاب إلى مكتبتي الخاصة وأن يستخرج الكتاب الذي طُبعت فيه ورقتي عن كتاب المعمَّرين للسجستاني وأن يرسلها بالفاكس إلى مؤسسة الأخ ناصر، قضينا فترة ما بعد العصر في التجول في حائل وضواحيها الجميلة والرائعة، وبعد المغرب عدنا إلى مؤسسة الأخ ناصر ووجدنا الورقة قد وصلت، وبعد العِشاء ذهبنا إلى مقر المهرجان، كان في حديقة عامة كبيرة، وقد تم إيصال سماعات إلى أماكن جلوس كل عائلة، وفي زاوية من الحديقة كان هناك كنبات وكراسي ومسرح للمتحدثين، كانت الأسر تخرج إلى الحديقة للفسحة وقضاء وقت الفراغ والتسلية وتناول الطعام، وكانت تستمع إلى المحاضرات والندوات والأمسيات في الوقت نفسه، لقد كانت طريقة مبتكرة حبذا لو قامت الأندية الأدبية بتعميمها وخاصة عندما تكون الأجواء معتدلة لتعم فوائد اللقاءات العلمية. أخبرت الحضور بالموقف الطريف الذي مر بي، وفي نهاية اللقاء طلب الحضور بعض قصائدي الشعرية، وخاصة قصيدتي في رثاء ابني عمر التي استخدمها مرور حائل بعد أن استأذنني قبل عام تقريباً في منشوراته في توعية الناس بأضرار حوادث السيارات، لقد كانت الأجواء الطبيعية والاجتماعية رائعة، وتبين لي أنها ليست المرة الأولى التي أنسى فيها شيئاً في جيب الطائرة وأنني لست الوحيد في ذلك فكثير من المسافرين ينسون كتبهم وبعض أغراضهم في تلك الجيوب وربما كنت أيها القارئ الكريم واحداً منهم..!!
zahrani111@yahoo.comأستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام