قعقعات الرمال والحصى المتطايرة تبث ترنيمة العدم، وراء الخلق، حيث الكائن البديع يرفل في حضرة صانعه الأوحد مطيعاً مستسلماً، ينظر بحدقتين واسعتين، كبيرتين، مستكشفاً ما حوله، ملبياً الصوت الأبدي، مذهول الغيب، يحلق في ثقل وتؤدة، في بنيان نقي صلب خال من الأحلام والأوهام.. من الأوجاع والأسقام.. تقبع بين جنبيه بلايين الأصوات المصغية.. غير أن ذاكرة النسيان أقوى من الغيب...
مضى حاملاً ثقليه، يجوب مع الفيلة، مترعاً بوهم الرجوع، يتطلع حاضره الأسيف إلى الماضي المرتحل فيجده غيباً مستعصياً، يود أن يمسك بتلابيبه حتى لا يرحل، يستنشق أثره عله يعود أو يرقى إليه، يذرف دموع الحسرة والألم، والغيب يدرج في صفحات مشوهة الأسطر، ممزقة الكلمات، عاش قروناً لا حصر لها ينشد البلورة التي خلبت لبه وعقله، التي لم يقدرها حق قدرها.. يتلهف على شيء من مرآها، عطر قديم، رائحة ذكية، نهر من خمر، شتان ما بين قحط وبلبل سادر في الجنان.
الشظف والصراع البائد والفرع المتأهب، ينسيه حلاوة الذكرى، فسيفساء القصور الشاهقة، غناء الطيور المغردة.. دبيب أقدامه الراكضة فوق بسط مفروشة بحصى مدبب الرأس..
صوت الكائنات يشجى بكاءه فيردد صدى الشجن، وتتأوه مليارات الخلايا التي نمت في حصنه القديم، مفاتيح فردوسه ذي الأبواب المغلقة، والستائر المسدلة، بعض من بصيص ضوء نشأ في رحابته، لم تجد عليه السدول ببريق خابي، تلثمها دموعه المخذولة، يعود إلى مخدعه المسلوب باكياً نادماً، متوسلاً المثول عند الأعتاب المقدسة. واللحن المنقضي يتغنى بمهد مسيرته الحجرية..
ها هو الآن نما في العصور وكبر عبر الدهور وصنع معجزات، اخترق السحاب والفضاء، طار في الهواء..غاص في الماء، يسكن الوديان، يفترش السحاب ويحلق فوق الهضاب وينطلق كنورس فوق الجبال، فتبدو في مرآه أخيلة راكضة.
اليوم استوى فارع الطول رغم قصره ورغم أنه كان من قبل أطول، اليوم اكتمل عقله ومن قبل كان أكثر حكمة، ولكنه الآن أكثر ذكاء وفطنة، اليوم أفاق من التيه ليبصر الأشياء ببصر حاد وبعينين ثاقبتين ولكنه يزداد طغيانا وأحيانا يزداد صبرا، يحمل وجهين بل ينشطر وجهه إلى خير وشر، الشطر القبيح يعظم ويتضخم، وشطر هزيل ساكن، كلما ارتقى إلى العلياء درجة حطم في سبيله ألف درجة ودرجة.
- علا حسان