|
الجزيرة - د. حسن الشقطي:
تضمن الإعلان الختامي لقمة الرياض حوالي (14) توصية بشأن قضايا اقتصادية هامة وملحة، هي: مؤسسات العمل العربية، والاستثمار البيني، واستخدامات الطاقة، والخدمات الصحية ومكافحة الأمراض، والتجارة البينية والاتحاد الجمركي، والعربي، والقطاع الخاص العربي، والأمن الغذائي، والأمن المائي، والبيئة والتنمية المستدامة، والتعليم والبحث العلمي، والشباب، والمرأة، والمجتمع المدني.
ولأول مرة تقريبا يصدر الإعلان الختامي معنونا لقضايا بعينها بمفاهيم ومصطلحات واضحة، فالإعلانات الختامية السابقة كانت تأتي في سياق مرسل بلا عنوانين، ولكن قضايا بين السطور.. أما في هذه القمة، فقد ظهرت عناوين للقضايا بشكل يبرز أنها قضية محل نقاش. فهناك عناصر ظهرت لأول مرة في الإعلانات الختامية للقمم العربية، سواء القمم السياسية أو الاقتصادية، مثل بروز المرأة أو المجتمع المدني أو البحث العلمي كعنصر فاعل داخل القضايا التي تهتم هذه القمم بعلاجها. وبالطبع طبيعة الفترة التي يمر بها الوطن العربي هي التي فرضت سيطرة وأهمية هذه القضايا..ثم إنه لأول مرة يحدث نوع من الوضوح في طرح القضايا، بظهور ملامح آليات تنفيذية واضحة إلى حد ما، وأيضا فترات زمنية للتنفيذ في بعض الحالات. ولو شئنا تقييم هذه القمة، لاكتشفنا أنه من الصعب إعطاؤها تقييما سلبيا على الإطلاق مقارنة بالقمم السابقة، وجدول المقارنة المرفق يوضح أنها القمة الأفضل في تاريخ الدول العربية سواء سياسيا أو اقتصاديا، لأنها تعرضت بجرأة للعديد من القضايا التي كانت تعتبر خطا أحمر في الماضي، مثل المرأة والمجتمع المدني على سبيل المثال.. إلا أنه مع ذلك، فإنها تركت الباب مفتوحا في العديد من القضايا بشكل مماثل للقضايا السابقة، وأتت بتوصيات غير واضحة المضمون. أيضا يمكن الإشادة بهذه القمة من حيث إنها لم تكرر كثيرا مفاهيم دراسة القضايا أو توافق الرؤى أو ذكر آمال القومية العربية أو عموميات العمل المشترك، بل إنها وضعت مفاهيم محددة في العديد من المجالات التي تعرضت لها نسبيا.
معالجة الثنائي الاقتصادي (التجارة والاستثمار البيني)
رغم أهمية القضايا الـ(14) التي تضمنها الإعلان الختامي، إلا أنه من الملفت للنظر أن هذه القمة هي الأولى التي تتجه للتركيز على معالجة فجوة الثنائي الاقتصادي الأكثر أهمية وهما: التجارة والاستثمار البيني. وهذه القمة أظهرت نوع من الجدية في طرحها للقضايا الاقتصادية بتركيزها على مضامين التجارة البينية والاتحاد الجمركي العربي أولا، حيث أكدت على استكمال متطلبات منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى قبل نهاية 2013م، وأكدت التزامها بالعمل على إتمام باقي متطلبات إطلاق الاتحاد الجمركي العربي وفق الإطار الزمني الذي تم الاتفاق عليه، وصولا للتطبيق الكامل له في 2015م .والجديد هنا تحديد الأسقف الزمنية للتنفيذ، وبالنسبة لسقف إطلاق الاتحاد الجمركي العربي، فهو بلا جديد لأنه سقف لا يزال أمامه ثلاثة أعوام تقريبا، ولكن تحديد سقف لاكتمال منطقة التجارة الحرة العربية قبل نهاية 2013م، هو أمر يدل على نوع من الجدية والتصميم على إحراز هدف، يشكل اللبنة الأولى في تكوين تجمع اقتصادي عربي حقيقي.
وتنبع أهمية قرارات التجارة البينية والاتحاد الجمركي العربي في أن هذا المجال يأتي على رأس المجالات الاقتصادية القابلة للتطبيق فورا بدون الإضرار أو الضغط على موازنات الدول العربية منفردة، فهو لا يحتاج إلى أي تمويل أو رأس مال أو تغييرات في السياسة الاقتصادية المنفردة لكل دولة، ولكنه يحتاج فقط إلى توصية بتغيير السلوكيات التجارية للقطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة من مناطق استيرادها من دول أجنبية إلى دول عربية أخرى.. ويمكن توقع إحراز الدول العربية نجاحات غير مسبوقة في هذا المجال تحديدا بسهولة نظرا لضخامة حجم الواردات العربية من العديد من الدول (الآسيوية والأمريكية والأوربية) غير العربية.
أيضا من المهم أن ندرك أن التجارة تأتي قبل الاستثمار في كافة التحالفات أو الاتحادات الاقتصادية، فإعادة توجيه الصادرات أو الواردات أسهل كثيرا من إعادة توجيه رؤوس الأموال التي تتطلب بيئات مناخية مهيأة وبلا مخاطر .. كما أنه بكل وضوح فإن الربيع العربي المنتهي أو الحالي ببعض الدول يضع صعوبات أمام تسهيل تحركات الاستثمارات العربية البينية بالشكل الذي يمكن أن يضمن حدوث تجمع اقتصادي عربي قوي حاليا، فالاستثمار العربي البيني يتطلب فترة زمنية تستوعب فيها اقتصاديات الربيع العربي تحقيق الاستقرار السياسي لإتاحة بيئات آمنة تماما للاستثمارات العربية. كما ينبغي توضيح أن اتفاقية تشجيع الاستثمارات العربية البينية لا تزال عمومية، واعتمدت على ألفاظ رنانة وآليات غير واضحة، وصانعي القرار ربما لجأوا لذلك، لعدم وضوح الرؤية في هذا المجال تحديدا في ضوء الاضطرابات السياسية في بعض الدول العربية .. كما أنه لأول مرة يتم الإشارة بوضوح إلى أن الاستثمارات العربية المطلوب تشجيعها ليست حكومية بالكامل، ولكنها استثمارات للقطاع الخاص، وهذه الاستثمارات لا تحكمها التوصيات الحكومية أو القومية، بقدر ما تحكمها عوامل العائد-التكلفة، والأمان السياسي في البيئة التي تتجه إليها.
أما قضيتا المرأة والمجتمع المدني، فالجديد هو طرحهما، ولكن لا تزال التوصيات بصددها أولية وتحتاج إلى كثير من النضج، وربما في القمة التالية في تونس 2015م يمكن إعطاؤهما المزيد من العمل العربي المشترك.
إلا أن كل ذلك لا يمنع من استمرار بعض الغموض أو التغليف البروتوكولي للعديد من الموضوعات الهامة، مثل تقديم التوصيات العامة أو العمومية بلا مضمون واضح لآلية أو سياسات تنفيذها.. هذا فضلا عن أن العديد من القضايا والموضوعات التي تم نقاشها لم تأت بجديد يذكر في قضايا الخدمات الصحية، والفقر والبطالة للمواطن العربي، والأمن المائي، والأمن الغذائي، وتنفيذ الأهداف التنموية للألفية، واستخدامات الطاقة، وفرص العمل أمام الشباب العربي، والبيئة والتنمية المستدامة .. فهذه القضايا الثمانية تقريبا لا جديد فيها، ولم يقدم الإعلان الختامي سوى تنويه عن أنها موضوعات تتطلب تطوير العمل العربي المشترك، ولكنه لم يتمكن من تحديد آليات عمل واضحة وقابلة لتنفيذ.
ورغم أن جهود جامعة الدول العربية تعتبر في هذه القمة أعلى عن سابقتيها في الكويت وشرم الشيخ، إلا أن آليات العمل والتحضيرات لا تزال تتطلب المزيد من الجهود، فكثير من القرارات جاءت منصبة على ملتقيات الأعمال التحضرية العربية، والتي هي نفسها لم تضع آليات واضحة وقابلة للتنفيذ.. لذلك، فإن هناك فجوة إجرائية واضحة فيما بين المؤتمرات والملتقيات العربية التحضرية وبين إعلان القمة، فالسؤال الذي يطرح نفسه: أيهما يأتي أولا؟ وأيهما البداية وأيهما النهاية؟ فإعلان القمة أحال قضايا الملتقيات عربية، والملتقيات العربية أحالت قضايا للقمة، وكان على الجامعة العربية أن تسد هذه الفجوة لكي تلبي أهداف وتطلعات الشعوب العربية بالوصول إلى قرارات قابلة للتنفيذ وسريعة وعاجلة، وليس الانتظار لقمة جديدة.. إلا أنه مع كل ذلك، فإنه ينبغي الإشادة بهذه القمة لأنه قد تمثل بداية المسار الحقيقي الصحيح للعمل العربي المشترك.
* مستشار اقتصادي
Dr.hasanamin@yahoo.com