الأمثلة السَّريعة التالية تمهد للدخول في الموضوع: نص إلكتروني تَمَّ تداوله مؤخرًا يشير إلى أن أحد المحسنين قد أعلن عن مبلغ مالي لفرش وتكييف مئة مسجد ولم يتقدم له سوى عشرة مساجد، ومقطع مصور يفيد أن شابًا بارًا بوالدته قد تلقى في حسابه البنكي مبلغ 80 مليون ريال قدمها ثري خليجي ضمن عشرين رقمًا حسابيًا عشوائيًّا في دول الخليج لعلَّ الله أن يشفيه من مرض عضال، نص ثالث وأخير يفيد أن فاعل خير يقدم دفايات وألحفة شتوية للأسر المحتاجة ومن يرغب عليه الاتِّصال بالرقم المرفق.
أكثر القصص التي مثّلت لها أعلاه لا يمكن في (رأيي) تصديقها من عدَّة وجوه، وإن صدق بعضها فإنّه غالبًا جاء في غير سياقه الصحيح وفي مسار غير مناسب وغير سليم ولم يحقِّق الهدف المراد من عمل الخير والبر والاحسان، وورد إلى علمي أن هناك من اتصل بمثل هذه الأرقام المصاحبة للإعلانات عن فعل الخير ولم يجد إلا العبث واللهو بمشاعر المحتاجين، بل إن بعضهم من ذوي النوايا السيِّئة (كما فهمت)، ثمَّ إن التفكير والتأمَّل بمحتوى بعض تلك الرسائل يظهر منه الغموض وسوء حبكة القصة، فلا يمكن لعاقل ملياردير من الخليج حين يصاب بمرض عضال أن يختار عشوائيًّا أرقاماً حسابية وينثر في كلِّ واحد منها عشرات الملايين جزافًا ودون حسابات مدروسة، فيمكن له أن يتوجه لقنوات الإحسان وجمعيات الخير وهي ستَتَولَّى بالتعاون معه توزيع صدقاته بالطرق المثلى لتشمل المحتاجين لها حقًا ويتحقَّق منها مراده في جني مردودها الخيري، بعيدًا عن الارتجال العبثي الذي لا يصدر إلا من مختل التفكير لو افترضنا حدوث ذلك لإتمام الجدل ليس إلا وهو ما لا يقرُّه الواقع والمنطق السليم، فهذه كما يبدو من اجتهادات دعاة مبتدئين (جزاهم الله خيرًا) للحث على بر الوالدين، وهو ما يعني ضرورة الارتقاء والعناية بالخطاب الدعوي والخطاب الإسلامي ليواكب مرحلة الوعي الشامل التي يعيشها المجتمع العربي والإسلامي بِشَكلٍّ عام، فزمن الترغيب والترهيب بالقصص والحكايات الخيالية يبدو أنّه قد ولى في ظلِّ الصحوة والثورة الثقافيَّة العلميَّة التقنيَّة التي بسّطت البحث والاطِّلاع واستقصاء المسائل والغوص في بطون أمَّهات الكتب والمراجع واستنباط أيّ معلومة مرادة خلال زمن وجيز وبأسلوب ميسر يدركه حتَّى صغار السن، بل هم أكثر مهارة من الكبار في هذا الشأن وهم من توجّه لهم مثل هذه الخطابات المبالغ فيها، في حين أن المطلوب هو الفهم الحقيقي لمبادئ الإسلام والنهل من صافي مقاصده السامية بالنهج الحكيم.
فكيف يمكن لذي لب أن يصدّق مثل هذه الروايات المنسوجة الواهية وإن حُسْنَ الظَنِّ بمن ينشرها فحُسْنُ الظَنِّ لا يكفي للاقتناع بالواقعة، ويصرف ذهن المُتلقِّي عن بقية الحكايات المماثلة التالية مما يفقد أيّ داعية بهذا المستوى المتابعة والقناعة بطرحه، وهذا (في رأيي) ما يجعل النَّظر في تنظيم شأن الدعوة أمرًا مهمًا وعاجلاً يضعه أصحاب الشأن في قائمة أولوياتهم، بحيث لا تترك لِكُلِّ مجتهد لا يملك أدوات الاجتهاد، فهو مع حرصه وجهده قد يضعف أمر الدعوة ولا يقويها.
t:@alialkhuzaim