قال أبو عبدالرحمن: كلُّ ما حولي في الرقعة العربية والإسلامية يجلب الهمَّ والقلق، ولا آسى على نفسي - والله المُسْتَعصم -؛ وإنما يقلقني الشباب والحفدة من ذرية إخواني و من ذريتي وهم كثر بحمد الله.. والذي يقلقني فتن كقطع الليل المُظْلم، والتَّحَصُنُ قليل،
وحِيلُ التضليل جاحِمة ومُحْكمةُ الحِيَلِ؛ وإنما أكثرتُ النسل امتثالاً لشرع ربي؛ فأنا على ثقة إن شاء الله أن الله سيحفظ للجميع دينهم وإيمانهم، وأما بالنسبة لي فإنني مُضْطَرٌّ إلى الغياب مع المُرَطِّبات؛ فالهروبُ قَدَرُ المُغْترِب، وغيابي مع الفنون الجميلة، وهي جنس واحد بأحد الاعتبارات، وهو أن مِعْيَارِيَّتَها واحدة، وهي أجناس متعدِّدة باعتبارات أخرى.. إن مادة النحت والتصوير غير مادة القول شعراً ونثراً، والموسيقى مسموعة، والصورة مرئية.. إلخ.. إلخ؛ فبمثل هذه الاعتبارات تكون الفنونُ الجميلة أجناساً، وكلُّ الفنون الجميلة على اختلاف أجناسها تحكمها قيمةٌ معيارية واحدة هي القيمة الجمالية؛ وبذلك أصبحت الفنون الجميلة جنساً واحداً، ولقد أصاب عالِـمُ الجمال الفرنسي «آلان» في واحدة، وأخطأ في أخرى.. أصاب عندما قرَّر في كتابه (نظام الفنون الجميلة) أن وحدة الفنون قائمة على الاختلاف بين أجناسها [وإن كان التعبير الأفضل أن يقول: قائمة على القيمة الجمالية]، وأخطأ عندما قرَّر: أن واحداً من الفنون الجميلة لا يستطيع وحْده تصويرَ الواقع من جوانبه كلِّها.. ويريد بالواقع اجتماعَ الأحاسيس، والإحساسَ من كل فرد بالأنماط الجمالية في فن واحد.. ووجه الخطإ أنه يُطالِب بما ليس في القُدْرة من الإحساس بكل الأنماط الجمالية؛ فمن جهة الموضوع فإن كلَّ فنٍّ لا يعطيك إلا ما فيه من نمط جمالي، ومن ناحية النفس فلا توجد نفس بشرية تستوعب كل الأنماط الجمالية في وحدة تامة زماناً أو مكاناً أوموضوعاً، كما أن إحساس الأفراد تَبَعٌ لثقافتهم وعشقهم الجمالَ.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أحسب أن كتاب (نظام الفنون الجميلة) منقولٌ إلى اللغة العربية؛ لأستوفي عبارته بنصِّها، وإنما يكثر النقل عنه في كتب الدراسات الجمالية - وإفادتي ههنا من مقالة (الأدب والفنون الجميلة) لعيد معمر المنشورة بمجلة التوباد العدد الرابع عشر / المحرم عام 1413هـ ص 90 - 93.. وعيب هذه المقالة النقص في التوثيق؛ إذْ لا يُبيِّن هُويَّة المصدر -.. والجمال هو البهجة في النفس، والجميل هو ما ولَّد هذه البهجة من خارج النفس.. ويأتي الجمال من مصادر معنوية غير حسية كالأخلاق والحقائق إذا ارتبطت بالمشاعر برابطة الحب، وهذه المصادر حسية باطنة سواء أتولدت من محسوس ظاهر كالصوت الجميل المسموع أم تولَّدت من معنوي غير محسوس بالحواس الخمس الظاهرة كلذة حب العدل والصدق، والنجدة.. وتتناول كتب (علم الجمال) مداخلَ كمسيرة علم الجمال على مدى التاريخ، وأما مادة (علم الجمال) وهي ميادينه؛ فهي التعريفات بكل ماله وشيجة بالجمال كتحديد فلسفة الفن، وفي التحديد تعريف.. وكتعريف الظواهر عن إبداع ما هو جميل (وهو ما يُسَمُّونه سيكولوجية الفن) كالمفارقات بين الفن الجمالي وبين أشياء ذات علاقة تاريخية كالعلم والأخلاق.. إلخ، وكذكر مذاهب الفنون الجمالية بعد إحصائها، وكذكر مناهجها؛ فكل ذلك تعريفات بالجمال وما حوله يفقهها دارس علم الجمال؛ لأن علم الجمال إحصاءٌ وتصوُّر.. ويدخل في ذلك التفريق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي، وجمال المنفعة والجمال المجاني (وهذه الثنائية غير ثنائية الفن للفن والفن للحياة)؛ لأن الفن للفن قد لا يكون مجانياً ما دام وسيلةً ينشط بها الذهن والجوارح والمهارات لعمل جادٍّ نافع.. وبعضهم يُدخل في علم الجمال من غير وعي أموراً من فلسفة الجمال ونظريته مثل تجاوزِ التعريفِ الموجز بعملية الإبداع إلى تحليلها وفلسفتها؛ وبما أن علم الجمال تعريفي وصفي فهو أوسع مادة كَمّْـاً، وأما نظرية الجمال وفلسفته فهي سجال فكري، واستبطان نفسي، واستقصاء حسي للتجربة الجمالية؛ فهي أضيق كَمّْـاً، وأوسع كيفاً.. وكُتُب الفلسفة وموسوعات الآداب والفنون عُنيت بعلم الجمال ونظريته، وكُتِبَتْ عنه مؤلفات خاصة؛ فمنها ما هو مقارنة بين ما كُتِب عن علم الجمال ونظريته وفلسفته، ومن هذه الـمُقارنة تجد التمايز بين الحقلين، وتجد الخلط والتجاوز عند مَن مَزج بينهما.. ومن المصادر التي رجعتُ إليها في مادَّتي الحقلين ويمكن للقارئ أن يقرن بينهما فلسفة الجمال ودور العقل في الإبداع الفني للدكتور مصطفى عبده، وهو عمل وصفي يليق بعلم الجمال، لا فلسفته.. وعلم الجمال والنقد الحديث للدكتور عبدالعزيز حمودة، وفيه جدلٌ فكري يليق بفلسفة الجمال.. وقراءات في علم الجمال للدكتور محمد عزيز نظمي سالم، وهو في صميم علم الجمال؛ مِن ناحية إحصاء مصطلحاته، ولكنه عقيم؛ لأنه لم يُحقِّق التصوُّر بالتعريف بالمصطلحات بلغة العرب.. ومعنى الجمال / نظرية في الاستاطيقا تأليف ولتر ت ستيس بترجمة إمام عبدالفتاح إمام، وهو مزيج بين الحقلين.. وحوار الرؤية / مدخل إلى تذوُّق الفن والتجربة الجمالية تأليف ناثان نوبلر بترجمة فخري خليل، وهو ألصق بالنظرية الجمالية.. وهكذا فلسفة الجمال في الفكر المعاصر للدكتور محمد زكي العشماوي، وكتيِّب عالمية الفن ومحليته للدكتور سعيد توفيق.. ومن المزيج علم الجمال لعبدالفتاح الديدي، وهو في كتبه كثير التسطيح، هُلامِي المداخلة.. ومن المزيج أيضاً فلسفة الفن / رؤية جديدة للدكتور علي عبدالمعطي محمد، وكتاب دراسات في علم الجمال للدكتور عدنان رشيد، وكتاب في الجماليات / نحو رؤية جديدة في الفن للدكتور علي أبو ملحم، وعلم الجمال قضايا تاريخية ومعاصرة للدكتورة وفاء محمد إبراهيم، وهو ألصق بالنظرية الجمالية.. وعلم الجمال تأليف دني هويسمان بتعريب ظافر الحسن، وهو كُتيِّب أمين مع هذا الحقل.. ومن مواد النظرية الجمالية كتيِّب النقد الجمالي تأليف أندريه ريتشارد بتعريب هنري زغيب، وعلم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت: أدونو نموذجاً للدكتور بسطاويسي، وهو ألصق بالنظرية الجمالية، وهكذا علم الجمالِ لوكاتش للبسطاويسي.. ومن علم الجمال كل الكتب المعنية بالظواهر الوصفية التاريخية مثل كتيِّب الفن والقومية العربية لمحمد صدقي الجباخنجي، وكتيِّب الفن الإسلامي في العصر الأيوبي للدكتور عبدالعزيز مرزوق، وكتيِّب الجمالية عبر العصور تأليف اتيان سوريو بتعريب الدكتور ميشال عاصي.. وهناك تسطيح في التذوُّق، ولكنه مزيج بين الحقلين؛ لأن المتذوق كالناقد وسيط عند القارئ بين علم الجمال ونظريته، ومن الكتب في هذا المجال كتيِّب العبقرية في الفن للدكتور مصطفى سويف.. ومما هو مزيج بين الحقلين كتاب مبادئ علم الجمال / الاستطيقا تأليف شارل لالو بترجمة مصطفى ماهر، وهو في دائرة علم الجمال لولا ما فيه من زخم فكري، وغموض شديد؛ مما يُقَرِّبه أيضاً إلى النظرية الجمالية.. وممن عُنبالدراسات الجمالية الدكتورة أميرة حلمي مطر؛ فلها كتاب مقدمة في علم الجمال، ولها فلسفة الجمال، وبالمقارنة بين الكتابين تتميز الملامح لِـهُوِيَّة كل حقل.. وعني بالدراسات الجمالية أيضاً الأستاذ مُجاهد عبدالمنعم مجاهد؛ فله كتاب علم الجمال في الفلسفة المعاصرة، وهو ألصق بالنظرية الجمالية.. وله دراسات في علم الجمال، وهو أيضاً ألصق بالنظرية الجمالية.. وله دراسات في علم الجمال، وهو أيضاً ألصق بالفلسفة الجمالية.. وله تاريخ علم الجمال في العالم اطلعتُ على الجزء الأول منه، وهو مزيج بين الحقلين.. وأما كتب المقارنات بين المذاهب الأدبية والجمالية فهي تضمُّ أمشاجَ علمِ الجمال ونظريته في المقارنة الجمالية مثل كٌتيِّب الواقعية في نقدنا الأدبي الحديث لعصام محمد الشنطي.
قال أبو عبدالرحمن: أَهَمُّ مَدْخلٍ في الدراسات الجمالية: تصنيفها عموماً، وتصنيف مواد كل حقل من الحقلين المذكورين آنفاً.. ولقد لاحظ الأستاذ مجاهد عبدالمنعم مجاهد ما يعتري علم الجمال من التحديد بكتابه دراسات في علم الجمال ص 15؛ وذلك بسبب امتزاج مواده النظرية بمواد النظرية الجمالية؛ فقال: « يمر أي علم في العادة بثلاث مراحل: الأولى هي ما قبل صك المصطلح الخاص بهذا العلم، والثانية هي ظهور المصطلح نفسه؛ ويكون هذا بداية الوعي الذاتي [يعني النفسي] بهذا العلم.. وتبدأ مرحلة ثالثة قائمة على تحديد العلم ونقده ورسم حدود دراسته؛ وبهذا يمكن القول بصفة عامة: (إن تعريف أي علم ليس إلا تاريخ صراع هذا العلم)؛ لمحاولة الوصول إلى تعريف حقيقي له.. أي أن التعريف الصادق لا يأتي في البداية، بل يكون في خاتمة كل حقبة تاريخية، وعلى هذا فإن علم الجمال هو تاريخ هذا العلم لمحاولة الوصول إلى تعريف حقيقي له، وتلمُّسِ أبعاده وموضوعاته ورسالته.. ولقد مرَّ علم الجمال بالمراحل الثلاث الأولى ما قبل صك مصطلح علم الجمال، ثم ظهور المصطلح الدَّال على العلم عند الفيلسوف الألماني بومجارتن، ثم الوعي الداخلي لدى علماء الجمال وفلاسفته؛ لتصحيح مَسار هذا العلم، وتضييق أو توسيع نطاقه، وصلة هذا العلم بغيره من العلوم «.
قال أبو عبدالرحمن: المرحلة الثالثة لم تتبلور بعد، ولم تكن مجمعاً عليها عند الدارسين المؤصِّلين، ولكنَّ الأبْرزَ عند دارسي ملامح النظرية الجمالية ملاحظةُ أنها سجال فكري، وتعمُّقٌ في مصاحبة أشواط الإحساس الجمالي إلى أن تكون تجرِبةً جمالية مستقِرَّة، وتقنينٌ لها بعد استقرارها في النفس الحاسة وفي الموضوع الذي هو جميل في المشاعر الباطنة؛ وبما أن الفيسلوف الألماني جوتليب بومجارتن [1714 - 1762م] ديكارتيُّ النزعة فقد وَقَفَتْه مدرسته الفلسفية عند بحث العلاقة بين الإحساس الجمالي والعقل، وقد أسهب عن ذلك الدكتور مجاهد في كتابه السابق ص 16، ولا ريب أن كثرة اهتمامي بالعقل الجمالي إنما كانت بباعثٍ واحد لا غير هو اصطفاء القيمة الفنية في الشعر؛ فهذا الذي يليق بدراساتي الأدبية، وأما الاهتمام الذي أدرس به مثل (الطير الـمُسافر) فقد توقَّفتُ عن الكتابة فيه؛ وإنما أصطفي مما سبق أن كتبته ما يخدم نظرية الشعر لا غير أيضاً، وهو من الـمُباح أو اللمم، وأما إحراقي إيَّاه فمن السَّفَه.. والمصطفى من اهتمامي بالعقل الجمالي هو سَبْرُ ماهية الإحساس بالجمال في مواصفات ما هو جميل، وفي موهبة وتربية مَن حصل له الإحساس به؛ وذلك أن الإحساس الجمالي قد يكون مشاعرَ غامضةً لا يُحدِّدها الكلام وإن كثرت صفحاته، ولكن الغموض يتبدَّى عمومُه بِفحْصِ ما هو ظاهر من الحس الباطن عن شيئ مُبهج؛ فالمشاعر مُنعكسة عن شيئ جميل.. والتقعيد الجمالي يُظهر مواصفات الموضوع (الجميل)، ويُظهر المستوى الصحي العقلي الثقافي للنفس ذات المشاعر الغامضة؛ فيعرف مدى علاقة الجميل بالفئة الـمُتَّحِدة في المظاهر التي أسلفتها، ولا يَنقص شيئاً مِن إدراك القيمة الجمالية العجزُ عن جلاء المشاعر الغامضة بكلام يشرحها؛ لأن المشاعر وجدان مُشترك، والعبارة تُميِّز بين المشاعر بالتقريب.. والناس مجمعون على تميُّزِ لذَّة الباءة [الشهوة الجنسية بالعُرْفِ الحديث]، وأن الرغبات عارمة نحوها، واللذة شعور يُعَبَّر عنها بمرادفٍ من وجهٍ واحدٍ كقولهم شهوة، وتعجز العبارات مهما طالت عن تحديدها أو وصفها بدقة مهما دخل في الوصف المقارنةُ باللذائذ الأخرى؛ وإنما الإحالة إلى المشاعر التي قد جَرَّبْتَها أنتَ؛ فتعرف كُنْهها بصمْت، ومع هذا لا يشك الناس في أنها في طليعة اللذائذ.. وأما الإحساس بالجمال الفني عند غموض التعريف به فليس مُسْتَعْصياً استعصاءَ تعريف لذة الباءة، بل يحصلن مقاربة التعريفِ إدراكُ العقل؛ فلا يُقال: (قيمة الجمال الفني غير مُدْرَكة بالفكر، ولا أنها لا توصف بالصدق والكذب).. بل الفكر يَعْقِلُ أنها مشاعر غامضة، وأنها مُحالة إلى وجدانات صامتة عن النطق، وأنها نِسبةٌ بين مواصفات موضوع وإحساس فئة ذات تكوينٍ عامي أو متعلِّم.. واسع الثقافة أو متوسطها.. صِحِّي أو غير سوي.. ذكي أو بليد.. والمعارف النسبية إدراكات عقلية، وتلك المشاعر ذات وجود في تلك الفئات، وذات علاقة بمواصفات الموضوع؛ فهذا معنى إدراكها، وهذا معنى الحكم فيها.. كما أن أثر وجود التجربة الجمالية في السلوك مُعْطىً فكري تجريبي يباركه الفكر؛ فيكون من كمال الجمال، أو يجعل التجرِبة متعة مؤقتة سيِّئة؛ فهي متعة جمالية زائفة؛ فهذا إدراك عقلي لحكم اللذة الجمالية، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.