تدأب العديد من الدول العربية اليوم في الخوض في متاهات تكون الشعوب في غنى عنها، وكان لِزاماً عليها التطرق إلى مواضيع اقتصادية وتنموية تقوي اللُحمة الحامية للبلدان والمجال السياسي العام....
... وإلا بقي هذا الأخير ضعيفاً ليتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف، وسأحدثكم في هاته المقالة عن تجربة رائدة خاضها المغرب منذ سنوات، وهي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، واستند في هاته المقالة على نتائج المنسقة لهذا البرنامج في المغرب الأستاذة نديرة الكرماعي في بداية الستينيات من القرن الماضي، تم التركيز على تكديس رأس المال والنمو الاقتصادي المبني على تطوير البنيات التحتية واستغلال الموارد الطبيعية.
وكان من المفروض إذ ذاك على هذا النمو الاقتصادي أن يُؤدي ويساعد على نشر التطور الاجتماعي.
لكنه، بالنسبة لهذا التوجه، لم يكن العنصر البشري والحفاظ على الموارد الطبيعية يُشكِّلان قط هاجساً من هواجس التنمية.
خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين، انصب مفهوم التنمية على سياسات التعليم والصحة والتطورات العلمية والتكنولوجية التي كانت تُعتبر عوامل أساسية وضرورية للرفع من الإنتاجية.
انطلاقاً من الثمانينيات من القرن الماضي، اتجهت السياسات العمومية نحو التنمية الاقتصادية عبر التوازن الماكرو اقتصادي والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، التي كانت من شأنها أن تُشكِّل أمراً مسبقاً لإعادة توزيع الثروات.
ابتداء من التسعينيات من القرن الفارط، وإلى يومنا هذا، تم التركيز على دولة الحق والقانون.
ومن هنا، كانت كلمة الفصل للتنمية البشرية من منطلقات الحريات العامة والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد برز هذا المفهوم للتنمية البشرية كمفهوم يجمع ويُوحد كل النظريات التقليدية، القائلة بكون الرفاهية هي الغاية الحقيقية والوحيدة للإنسان.
ثم جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كمشروع مجتمعي غير مسبوق، لإغناء مختلف الأفكار والنظريات، بتبنيها بُعداً أكبر من مجرد ورش للتنمية الاقتصادية، حيث دمجت العدالة والإنصاف الاجتماعي، وضمان الحقوق الأساسية للإنسان وتوسيع الفرص والخيارات الفردية والجماعية.
لقد عبأت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية استثماراً إجمالياً قدره 14.1 مليار درهم، خلال الفترة 2005-2010، ساهم فيه صندوقها بمبلغ 8.4 مليار درهم، وتمكَّنت من خلاله من إنجاز أكثر من 22.000 مشروع، وعمليات وأنشطة لفائدة أزيد من 5.2 مليون مستفيد.
وقد ارتكزت طريقة العمل على مبدأ مشاركة الساكنة في مختلف مراحل المسلسل الذي ينطلق من التعبير عن الحاجيات، فاللجوء إلى التشخيصات التشاركية، ثم التحديد، والتركيب، وصولاً إلى الإنجاز وتتبع المشاريع.
وفي نفس السياق، مكَّن إنجاز 3.700 مشروعاً مدراً للدخل من خلق 40.000 منصباً للشغل، ساهمت في الحفاظ على الكرامة الإنسانية للمستفيدين.
تُعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ورشا مبدعا تنبني على مقاربة تدبيرية عبر فلسفتها وطريقتها ورؤيتها وقيمها ومبادئها.
فهي تجربة مغربية صنعها المغاربة من أجل المغاربة، جمعت بين طياتها في مجموعة متجانسة التنمية والمشاركة المواطنة.
هدفها في ذلك هو محاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي والهشاشة.
ومن أجل ذلك، فهي تعتمد على منظومة من القيم الكونية، والتي يُمكن إجمالها في ما يلي:
الكرامة: فالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تشدد على الاحترام اللا مشروط للإنسان وقبوله في إطار مبدأ التنوع.
الثقة: بفضل طريقة اشتغالها، ترمي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى التأثير إيجابياً على سلوك الساكنة.
المشاركة: تساعد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الساكنة في التعبير عن حاجياتها من خلال طريقة للإنصات والتشاور.
الحكامة الجيدة: بالنظر إلى البُعد الإستراتيجي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تم إرساء إطار ملائم وموحد للحكامة، يتطلب روحاً عالية من المسؤولية، ومن ثقافة الإخبار والشفافية والنجاعة.
الاستمرارية: يُعتبر امتلاك حاملي المشاريع والمستفيدين منها ضمانة وشرطاً مسبقاً لاستمرارية منجزات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
ومن أجل تأكيد وتثمين خطوات تفعيله، عزز ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مرحلته الأولى، التي ضمت أربعة برامج، اثنان منها ذوا استهداف ترابي، ألا وهي: “برنامج محاربة الفقر بالوسط القروي الذي يستهدف 403 جماعات قروية يتعدى معدل الفقر فيها 30%.. برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضري الذي يستهدف 264 حياً.. أما البرنامجان الآخران فيتعلقان بمجموع عمالات وأقاليم المملكة، وهما:
“برنامج محاربة الهشاشة الذي يستهدف 8 فئات من الأشخاص “البرنامج الأفقي الذي يعتمد على مسطرة طلب العروض من هذا المنطلق، شملت المرحلة الثانية 2011-2015 للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية خمسة برامج تهدف إلى تقليص الاختلالات الكبرى المسجلة على المستوى السوسيو - اقتصادي عبر الاستجابة للحاجيات الأساسية للساكنة المحرومة.
وهذه البرامج هي: “برنامج محاربة الفقر بالوسط القروي الذي يستهدف 701 جماعة قروية يتعدى معدل الفقر فيها أو يساوي 14%، أي معدل الفقر الوطني بالمجال القروي.. “برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضري الذي يستهدف 530 حياً حضريا تنتمي إلى المدن والمراكز الناشئة التي تتعدى ساكنتها 20.000 نسمة”.. برنامج محاربة الهشاشة “البرنامج الأفقي الذي يعني مجموع عمالات وأقاليم المملكة، ويضم محوراً مخصصاً للأنشطة المدرة للدخل”.. برنامج التأهيل الترابي، والذي يخص 503 جماعات قروية متواجدة بـ 22 إقليماً جبلياً أو نائياً.
وتتمحور هذه البرامج حول محاور نذكر منها: “الولوج إلى البنيات والخدمات الاجتماعية الأساسية: تحسين الولوج إلى التمدرس، والعلاجات الطبية، والكهربة، والماء الصالح للشرب، والتطهير، والطرق؛
“الأنشطة المدرة للدخل والأنشطة المدعمة لخلق فرص الشغل والدخل القار؛ “دعم عمليات التنشيط الاجتماعي والثقافي والرياضي؛ “إنجاز مشاريع ذات وقع كبير على الساكنة؛ “أنشطة التواصل المؤسساتي وتواصل القرب؛ “تشجيع ومواكبة النسيج الجمعوي.
وتتجلى الأهداف المتوخاة من البرامج السالفة الذكر في البحث عن التماسك الاجتماعي، وتكافؤ الفرص، وتحسين ظروف وجودة عيش الساكنة المهمشة والمحرومة، وإعادة الإدماج الأسري والاجتماعي والاقتصادي للساكنة المستهدفة، وتكريس المقاربة التشاركية.
كما تستمد فعاليتها من طريقة الحكامة المعتمدة.
ومن أجل إرساء طريقتها وتفعيل أهدافها وقيمها ومبادئها، تعتمد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على طريقة حكامة غير مسبوقة عبر لجن للتنمية البشرية ذات تشكيلة ثلاثية التكوين، تشرك في عضويتها المنتخبين وممثلي النسيج الجمعوي والمصالح اللا ممركزة للدولة.
وفي هذا الصدد، فإن إرساء أزيد من 400 لجنة محلية للتنمية البشرية على مستوى الجماعات القروية المستهدفة وعلى مستوى الجماعات والبلديات والمقاطعات الحضرية التي تتواجد بها الأحياء الحضرية المستهدفة، وكذا 70 لجنة إقليمية و16 لجنة جهوية للتنمية البشرية، قد مكَّن مجموع الفاعلين في التنمية، وبخاصة الجمعيات، من الولوج إلى فضاءات القرار لتدبير الشأن العام المحلي.
وبهذا فإن الدور المنوط بالمجتمع المدني داخل لجن التنمية البشرية يتعدى الأدوار التقليدية للتنشيط إلى وظائف حقيقية للقرار والابتكار والخبرة واليقظة.
من هذا المنطلق، يمكن القول بأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تُعد مشروعاً لتجديد تدبير الشأن العام، فهي تستمد روحها من “المفهوم الجديد للسلطة”، الذي يجعل من الفعالية والقرب والاستماع الدائم إلى حاجيات وانتظارت المواطنين أحد التوجهات الكبرى للعمل العمومي.
أكتب كل هذا الكلام، ونحن نرى ما يقع اليوم في دول كمصر الغنية بتاريخها وقدراتها البشرية، وأما كان حرياً بنخبتها الخوض في أولويات المرحلة: الاقتصاد والتنمية.