سمعت كلمة “إنجلينزي” مرات عديدة، مرات من مسئولين، فخلتها الكلمة المتعارف عليها في منطقتنا لاسم اللغة الأشهر في العالم “الإنجليزية”، والبعض في مناطق أخرى ينطقها “إنقليزي” بكسر الرّاء المشدّدة، وغيرهم ينطقها “إنقلَيزي” بفتحها. ورغم اختلاف نطق الكلمة إلاّ أنك تفهم مباشرة
المقصود منها، اللغة التي لا تنازعها أخرى في عالم اليوم. وكيفما نطقناها فهي تشكل لأهلها بمختلف بلدانهم، وتباعد قاراتهم، أحد أهم المجالات الاستثمارية: طرقاً، وكتباً، وأساتذة، وتجارة أيضاً.
وسمعنا منذ عقود كثيرة الأناشيد و”الموالات” المتواصلة عن أهمية هذه اللغة الساحرة لنجاح الفرد في الحياة، ولتقدم المجتمع، ولتحضر أفراده، عزّزها انفتاح ثقافي تلفزيوني مفاجئ على برامج أمريكية نجحت في ترسيخ صورة السوبرمان الأبيض. فتسابق الكثير منا للدخول لأقسام اللغة الإنجليزية، حيث كانت معرفة الإنجليزية في ذلك الوقت “برستيج اجتماعي” مهم. ومع أنّ الدولة، رعاها الله،، دشّنت موجة البعثات الأولى المكثفّة، وكثر المتكلمون بها، إلا أنه لم يتلاشى بريقها. والطلاب في تلك المرحلة يتذكّرون حرص أول موجة دكاترة قدموا لتوِّهم من البعثات الأولى على ترديد عبارات العربيزي في ثنايا كلامهم للتذكير بأنهم مثقفون بالإنجليزية. يردّدونها بنغمات متقنة وبمخارج صوتية يحسدهم عليها أهلها الأصليون، ولم يستطع المتخصصون في هذه اللغة مجاراتهم فيها.
مر الآن أكثر من أربعة عقود وتكررت البعثات، وأصبح البعض منا يتكلم الإنجليزيي ولا يعرف العربي، ولكن هناك أمر واحد مؤكد لم يلحظه أي منا، ألا وهو أنّ هذه اللغة لم تجلب لنا التقدم المنشود الذي تخيّلناه رغم أننا تفوّقنا في الرطانة بها على أمم كثيرة سبقتنا في التطوُّر الذي كنا نحلم به، تقدموا هم في الإنتاج بلغتهم علينا، وتفوّقنا عليهم في إجادتنا للغة الإنجليزية. بل إنّ العالم تغيّر من حولنا، وأصبحت دول غير إنجليزية تلعب الأدوار القيادية فيه اقتصادياً وسياسياً، ونحن متمسكون بحكمتنا التي لا نحيد عنها وهي أنّ الإنجليزية مفتاح التقدم.
لم نتغيّر اليوم كثيراً إلاّ أننا بدأنا نطعّم لهفنا للإنجليزية وركضنا وراءها بمقاطع صغيرة من النحيب المتقطع على مصير اللغة العربية، بالطبع ليست العربية المعاصرة لعالمنا، ولا عربية الغد المتوقع، ولكن عربية الأجداد ولغة وقتهم وعلومهم وزمنهم، وهذا يدلل على أن انفصامنا اللغوي اليوم من النوع المستفحل والمتجذّر الذي يتطلّب تشخيصاً عميقاً من أطباء أمراض الحضارة والتهافت المجتمعي. وبالرغم من أنّ الإنجليزية لم تفدنا في الماضي، على الأقل بالشكل الذي تخيّلناه، إلاّ أننا لا زلنا نردد أهميتها للمستقبل الذي نلاحقه ويهرب منا. والانسلاب اللغوي موضوع معروف لدى خبراء اللغة، ويتجلّى في موقف لغوي يجزم بقدرة اللغة على تغيير الواقع، وبأنّ هناك لغات تفوق أخرى.
طبيعي جداً أن تكون لغتنا غير جاذبة ومهجورة إذا هجرناها نحن، وأن تكون لغتنا غير جاذبة إذا كنا نعاني من فقر دم فكري وتسيطر علينا حالة انبهار بما حولنا؛ وطبيعي أن يكون وضعنا اللغوي بائساً إذا ما كانت مفاهيمنا بائسة، وطبيعي أن تكون لغتنا غير واضحة إذا ما كانت الأفكار التي ندوّرها في رؤوسنا غير واضحة. وطبيعي، في المحصلة النهائية، أن تتكوّن لدينا حالة استلاب ثقافي ولغوي إذا كنا ندرس العلوم القديمة، التي يعتمد كثير منها على التكرار الممل والحفظ المنفر بلغتنا، وندرس العلوم الحديثة الأكثر تشويقاً بالإنجليزية. فالأجيال هي من يصنع اللغة وليس العكس. واللغة على فكر أصحابها.
منذ أربعين عام والأفراد يتسابقون على تعلُّم لغة مصباح علاء الدين صغار وفتيان وكبار. وأخرج كثير من الناس أولادهم من مدارس حكومية وأدخلوا صغارهم مدارس خاصة أهلية، بالرغم من أنّ الأولى ذات إمكانات أكبر ومدرسين أفضل. وانتشرت مدارس اللغة الإنجليزية في مدننا انتشار مطاعم المندي وعيادات الأسنان حتى صار عندنا قطاع اقتصادي خاص يمكن أن يطلق عليه “قطاع الخدمات اللغوية الإنجليزية”. ولبّ الحقيقة أنّ بعضنا قد يتعلّمها لهدف محدّد، ولكن أكثريتنا ينشدها لهدف غامض غير واضح يكمن في لا شعوره الثقافي.
وسنسلم، ولو من قبل تجنب عنف ردة الفعل، بكون معرفة اللغات وبالذات الإنجليزية مهمة وبخاصة في أيامنا هذه، حيث أصبح التسليم بأنّ العالم كالقرية الصغيرة التي تتحدث الإنجليزية أمراً لا مجال للجدل فيه، حتى ولو كنا في كثير من أمورنا خارج هذه القرية. ولكن إذا ما سلمنا بذلك، فما هي فعلاً الأهمية الحقيقية للغة الإنجليزية؟ ثم ما هي الحقائق التجارية التي تروّج للناس في مجال تعليم هذه اللغة وهي غير صحيحة، وربما مصدر خطر على مجتمعنا وثقافتنا؟ فالنقيض لتقارب عالم اليوم في قرية صغيرة، هو استنهاض أمم كثيرة: الكرد، الأمازيغ، الباسك، الإيرلنديون وغيرهم للغاتهم حفاظاً على هويتهم، بينما نصر نحن على إضاعتها.
من أهم المفاهيم الشائعة الخاطئة التي يتداولها معظم الناس، اعتقاد صدقه الكثير منهم بأنّ تعليم الإنجليزية للأطفال الصغار في مراحل التعليم الابتدائية، هو أفضل لهم لأنهم يتعلمونها بطريقة أسرع وأنجع من تعليمهم. وهذا المفهوم يرتبط بمفهوم تقليدي آخر هو أنّ “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، مفهوم برّرته التجارب العملية في الماضي عندما كان التعليم في مجمله يتعلق غالباً بإكساب المهارات السلوكية والحرفية، من أجل توريث الحرف من الآباء للأبناء، حيث يفضل أن تكون عضلات الصبي غضة وعظمه ليناً وباله خالياً. تعليم يعوّد النشء على مهارات آلية دونما تفكير يذكر.
أما بالنسبة لمتطلّبات التعليم الحديثة، فلم يظهر ما يبرّر هذا المفهوم علمياً، لاختلاف متطلّبات التعليم عما كانت عليه بالأمس، ولأننا نعرف عن النمو العقلي للأطفال أكثر مما كنا نعرف من قبل. فالطفل، على سبيل المثال، لا يتعلّم المواد الدراسية والعلوم الأولية فقط ، ولكنه يتعلم ما هو أهم بكثير، وهو كيف يتعلم. إنّ العادات التي يكوّنها الطفل صغيراً تكون فعلاً كالنقش في الحجر، أما ما يحشى به ذهن الطالب به من نصوص ومعلومات ومواد فسرعان ما ينساها، لأنّ عقله وذاكرته ما زالت في طور النمو والتكوين، ولها سعة محدودة، ولذلك فهي أشبه بالخط في الرمل. فما قد يتعلمه من اللغة بشكل آلي سينساه سريعاً لو لم يستمر في ممارسته بلا انقطاع، ولكن شُينقش في عقله للأبد أنّ اللغة الإنجليزية هي الأهم، بل وأهم من لغته الأم، وسيصاحبه ذلك في بقية مراحل حياته.
وهناك دلائل قوية تشير إلى أنّ القدرة اللغوية والقدرة على التفكير، وجوانب الشخصية والوجدان تنمو وتتطوّر معاً في السن المبكرة للطفل مباشرة بعد تعلُّمه النطق، ويستمر ذلك خلال المرحلة الابتدائية، كما وأنّ هناك ارتباطاً قوياً بين وضوح الفكر وتطوُّر الملكة اللغوية. إذ إنّ اللغة هي الأداة الوحيدة التي بواسطتها يتعلم الطفل التفكير المجرّد الذي يعتمد عليه التفكير الاستقرائي والاستنباطي، وبها يتفاعل مع المجتمع من حوله. فالطفل في هذه السن يعي ما يناسب قدرته اللغوية وينطق بما يتناسب ومستواه العقلي. ولذا فالتركيز على تعليم الطفل لغة أجنبية في سن مبكرة، علاوة على أنه يدخل ضمن الحشو الذي سرعان ما ينسى، ويخلق لديه خلط في أساليب التفكير، يفضي أيضاً إلى خلط المفاهيم الحضارية لديه وتشويه النمو في شخصيته ويجعله عرضة للاستلاب الثقافي. وهذا ملاحظ كثيراً على من تتولّى تربيتهم مربيات أجنبيات يتحدثن معهم بلغة أجنبية فقط. وتتعزّز هذه الازدواجية الحضارية إذا ما استمر الوالدان في تأكيد أهمية اللغة الأجنبية للطفل، فربما أدى ذلك إلى خلق عقدة نقص من الأجنبي عنده. ولذلك فتعليمه اللغة يفضّل حين يكون في عمر متأخر بعد رسوخ هويته، وبعد أن يعي أمور دنياه. وهناك كثير من المفاهيم المغلوطة الأخرى التي تدور حول هذا الموضوع ولا مجال لذكرها. ولكن نتمنى ألاّ تستعجل قرارات التعليم، وتهدر الأموال فيما لا يعود بالنفع، وأن تدرس الخطوات بتأنٍ وعقلانية بعيداً عن التعجُّل والعاطفة.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif