ذلك أن ما جرى في مصر من أحداث، إنما يبعث على الحزن وتسيل له الدموع، ولا يبقى إلا هذا الانفعال عند من يشاهد ما يجري؛ إذ إنه يستعصي على الفهم ولا يترك مجالا للتمعن والتمييز. فمن ضد من؟ هل كانت وراء ذلك استشاطة غضب للأخذ بالثأر من قتلة
مشجعي النادي الأهلي في بورسعيد؟ ولكن هل يعقل أن تطفأ نار الغضب بمادة مشتعلة مثل أحكام الإعدام المتعجلة الجماعية؟ كأنما هي أحكام صادق خلخالي- قاضي الإعدام في إيران.
وهذه المظاهرات العنيفة والاقتحامات في السويس والإسماعيلية والإسكندرية وميادين القاهرة هل يعقل أن يكون التعبير الطبيعي عن خيبة الأمل الكبرى في الذكرى الثانية لانتفاضة 25 يناير 2011م وإذ جاء الحدثان في وقت واحد، رأت المعارضة التي تتجمع في جبهة الإنقاذ الوطني فرصة لركوب هذه الموجة الانفعالية ورفع سقف مطالبها السياسية، خاصة مع دخول القوى الثورية الشبابية التي أشعلت تلك الانتفاضة ثم جرى إقصاؤها بعد نجاحها وتولى المجلس العسكري للسلطة ثم تولى الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية بانتخاب ديمقراطي.
إذا نحينا قضية بورسعيد وأحكام الإعدام (الخلخالية) جانبا، فإن القوى السياسية التي تعلن عن نفسها في الساحة الهائجة في مصر تتبلور في ثلاث قوى هي - كما اتضح من تحليل مسهب للكاتب محمد شومان في صحيفة الحياة بتاريخ 30 يناير 2013م جبهة الإخوان المسلمين بمن فيهم الرئيس والحزب وما يشبه الميليشيات الشبابية والحلفاء من بعض القوى الإسلامية، وجبهة الإنقاذ الوطني التى يتزعمها ثلاثة من الشخصيات السياسية المخضرمة (محمد البرادعي وعمرو موسى وحمدين صباحي) وهم يمثلون اتجاهات سياسية مختلفة تجمع بين الوطنية التقليدية الشعبية والديمقراطية الحزبية؛ ثم جبهة القوى الثورية وتشمل أحزابا وحركات يغلب عليها الطابع الليبرالي والرغبة في التغيير وغضب الشباب مع غياب الخبرة السياسية والبرنامج الواضح الخطوط-باستثناء التعبير المنفعل عن خيبة الأمل فيمن مشوا خلف الثورة ولم يقودوها.
جميع المنتمين لهذه القوى ينددون بالعنف علنا؛ فمن الذى يضرم نار الغضب ويتسبب في القتل؟ هل هي جبهة رابعة لا تفصح عن نفسها من أنصار النظام السابق، أم هم فصيل الشباب الغاضبين الذين يسمون أنفسهم (الكتلة السوداء) ويسعون لمجابهة قوة الشرطة وميليشيات الإخوان -كما يزعمون؟ بصرف النظر عما تنتهي إليه الأحداث- وهي كالعاده تميل إلى الهدوء زمنا قصيرا أو طويلا ثم يطرأ أمر استفزازي تثور بسببه الانفعالات فإن الخطورة تكمن في تحول الانفعالات والمواقف السياسية التي هي بطبيعتها ديناميكية إلى تكتلات متصلبة في انتمائها العقائدي تأخذ شكل أحزاب أو تيارات أو طوائف (إسلامية، علمانية، قبطية، فاشية...الخ).
فالجبهة الإخوانية تتمسك بالحكم الذي وصلت إليه بطريقة ديموقراطية، ولكنها تدافع عنه بطرق غير ديموقراطية تخلق لها الأعداء من كل جانب بما ترتكبه من أخطاء في تدبير الحكم مثل الوقوف في وجه السلطة القضائية بالإعلان الدستوري وعدم جواز الطعن في قرارات الرئيس وقيام مجلس الشورى ذى الأغلبية الإخوانية باستبعاد قياديين في وسائل الإعلام الحكومية والصحف القومية وتعيين آخرين والسكوت عن قيام خطباء المساجد باستغلال الدين للدعاية الانتخابية.
يضاف إلى ذلك أن استقالة عدد من مستشاري الرئيس ينبئ بأنه لا يرجع إليهم بل يستشير جماعته ويرى المعارضون في ذلك دليلا على أنه يمارس السياسة بإدارة مؤدلجة تراعي أولويات جماعة الإخوان.
والتجارب التاريخية الحديثة تؤكد أنه ليس في هذا النوع من السياسة خير، حتى لو جاء الحاكم عن طريق الانتخاب - كما في حالة إيران وبعض الدول التى تحولت من النظام الشيوعي إلى نظام انتخابي فاز فيه الحزب بالحكم ولكنه حكم بالعقلية الشيوعية السابقه.
أما أسوأ مثال فهو الحكم النازي في ألمانيا.
فقد فاز حزب هتلر في انتخابات عام 1933في ظروف اقتصادية وسياسية كئيبة، ثم حكم هتلر بعقيدة حزبه الفاشية التي قادت ألمانيا إلى الدمار.
ولا مجال هنا للمقارنة فالنظام الحاكم في مصر الآن أبعد ما يكون عن ذلك.
لكن الواقع أن جبهة الإخوان انشغلت بحماية موقعها في الحكم وتركت تدبير الضرورات والخدمات المعيشية لحكومة لا تملك الموارد المالية الكافيه في خزائنها.
المعارضة من جانبها رأت في ما سبق ذكره نقاط ضعف تبرر مهاجمة حكم الرئيس وجماعته وليس شرعية الرئيس نفسه؛ تارة بسبب الإعلان الدستوري وتارة بسبب الجمعية الدستورية وطبخ الدستور ثم طرحه للاستفتاء وأخيرا- مع زخم المظاهرات - علاوة على ذلك تشكيل حكومة إنقاذ وطني.
وفي هذا المطلب الأخير تصعيد لا يناسب إلا وضعا كارثيا يحيق بالبلاد وإبراز لخطأ المعارضة الذي يوحي بأن هدفها أصلا هو الإطاحة بحكم حزب الإخوان المسلمين وليس وضع الحكم في مسار دستوري وآن هذا الهدف هو الشيء الوحيد الذي يرص به المعارضون صفوفهم، حيث إن قلوبهم شتى ! فهم لا يملكون الفكر الموحد والتأثير الديني الذي يجنده الإخوان لمصلحتهم ويتفاعل معه الجمهور البسيط أكثر من تفاعله مع أحاديث المعارضين عن الديموقراطية والليبرالية وحرية التعبير والدستور.
وكان يمكن للمعارضة أن تؤكد وجاهة اعتراضاتها باستخدام الفرص القانونية والدستورية المتاحة عبر وسائل الإعلام الحرة ومنظمات المجتمع المدني مثل النقابات والتظاهرات السلمية المقننة والتعبئة الشعبية من خلال الدعاية الانتخابية التي تسبق انتخابات مجلس الشعب واللجوء للقانون لمنع خطباء المساجد من الدعاية للمرشحين.
بل إن إجراء انتخابات محلية في المحافظات لانتخاب المحافظين ومجالس الحكم المحلي يتيح للمعارضة فرصا أكبر لضمان المسيرة الديمقراطية وللتأثير على الحكومة المركزية- هذا إن كانت تجري مثل هذه الانتخابات.
إن هذا الأسلوب البديل - في رأيى- هو الذي يجنب البلاد الوضع الكارثي الذى ينتج عن التصعيد ويلغي الحاجة إلى حكومة إنقاذ وطني.
ونسأل في الختام: ماذا جرى في مصر - هل هو صراع على الحكم، أم على الدستور والمبادئ الديموقراطية وتحقيق أهداف الثورة؟ أليست مصر في حاجة إلى الأمن والاستقرار لكي تنمو وتزدهر وتسير العملية الديمقراطية بدون عوائق؟ إن إطالة التصعيد والعنف وتصلب المواقف من كل الأطراف سيعمق الكراهية ويفتح الباب لشيطان الطائفية الأيديولوجية كما نعرفها في بلاد أخرى، ومن ثم تمزيق وحدة شعب عرف طوال تاريخه بأنه نموذج الشعب الموحد.