من أراد أن يرزقه الله فقهاً في الدين؛ فعليه أن لا يَشقَّ على نفسه بإقحام مدلول المصطلحات البشرية من علوم الأصول والمنطق في فهم دين ربه؛ فهذا ضياع للذهن والوقت؛ وإنما عليه مزاحمةُ صَدْرِ أتباع السلف الصالح؛ بأن يكون الاتِّباع بإحسان؛ وذلك بحذق وسائل الاستنباط الصحيحة قبل فساد السليقة العربية؛...
.. وتلك الوسائل محصورة في الحذق الجيِّد للغة العرب مفردةً وصيغةً ورابطةً وسياقاً وبلاغةً، مع الاحتفاء ببدائه العقول، وقوانين الفكر الضرورية؛ فيستعمل هذه الوسائل في فهم النص الشرعي الصحيح، مع التبحُّر في قراءة كتب الحديث ذوات الأسانيد؛ فإذا رجع إلى كتب الفقه أو الأصول؛ ليشرف على مذاهب علماء المسلمين فليكن رجوعُه رجوعَ المقتنِع بوسائله في الاجتهاد؛ فيردَّ كل خلاف إلى بدائه اللغة والعقول واطِّراد الأصول.. ولقد رأيت التحقيق اللغوي في النصوص الشرعية النازلة بلغة العرب مع استحضار بدائه العقل يَحِلُّ خلافاً فقهياً كثيراً، ويُضاف إلى ذلك تركيبُ البرهان الواحد من عشرات من النصوص وردت في مقاصد مُعَيَّنة؛ فهذا يرفع التعارض من أفهام المسلمين؛ لأن ضم مفهوم نص شرعي إلى مفهوم نص شرعي آخر يحدِّد مقاصد شرعية يقضي بالرجوع إليها عند الاختلاف؛ فتكون من قواطع الإسلام وضروراته كالاستدلال على أن عقوبةَ الشرع أكبر من حجم الجريمة؛ فهذا لا تجده في نص شرعي واحد، ولكنك تُبلْوِره من مفهوم نصوص كثيرة.
ومن الأصول الأولى غير الـمُتكلَّفَة القسمة الحاصرة، وأضرب المثال بالدعاء في السجود والركوع، وهو أن الساجد والراكع لا يخلوان من ثلاث حالات لا رابعة لها في تصور العقل وواقع الحس: فإما أن يسكت في أثناء الركوع والسجود، وإما أن يقول أيَّ دعاء أو تلاوة، وإما أن يقول قولاً معيناً؛ فأما السكوت فلم أجد مطلقاً في نصٍّ شرعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت في ركوعه وسجوده أو أمر بذلك أو أباحه بقوله أو فعله؛ فصار السكوت عملاً ليس عليه أَمْرُ الشرع؛ فهذا في حُكم مَن نُقِلَ عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فهي رؤية تجوُّزاً؛ لأن ما أخبرنا به، وما نُقل إلينا من سماع ما يقول في ركوعه وسجوده: شهادةُ حسٍّ، والحواسُّ يكمِّلُ بعضها بعضاً.. فنظرنا فيما يقول الراكع والساجد: أمباح له أن يقول أي شيئ في أثناء ركوعه وسجوده، أو لا بد له من كلام مُعَيَّنٍ يقوله ؟.. فرجعنا إلى مَن تجب طاعته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه عيَّن شيئاً بعد النهي عن شيئ؛ إذ قال: ( ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً.. أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء)، ثم بين عليه الصلاة والسلام ما يقال في الركوع والسجود من تعظيم وتسبيح ودعاء؛ فلو اكتفى عليه الصلاة والسلام بالنهي عن قراءة القرآن لقلنا: (كلُّ كلام تَعَبُّدي جائز في الركوع والسجود غيرُ القرآن)؛ فلما عيَّن ما يُقال في السجود والركوع صحَّ بذلك أن السكوت لا يجوز، وأن أيَّ كلام لا يجوز أيضاً إلا أن يكون تعظيماً وتسبيحاً ودعاء؛ فصح بذلك أن الدعاء في الركوع والسجود واجب؛ لأن العقل إذا حصر بضرورة فكرية أو حسية ثلاثَ حالاتٍ لا رابعة لها، ووجِد حُكمُ الثالث مُلْغياً لهما: وجب حكمُ القسم الثالث الذي لا بديل له.. ومثل هذا البرهان فطرةٌ في العقول، وهو من بدائه لغة العرب، وقد خاطب ربنا عقولَ العرب بهذه البديهة؛ إذ بين لهم سبحانه أنه ليس بعد الحق إلا الضلال؛ ذلك أن البرهان إذا قام على أن هذا ضلال تعيَّن بالضرورة أن غيره هو الحق؛ لأنه ليس في القسمة الجامعة إلا الحق والضلال ولا ثالث لذينك.. ولكن الضلال له نقيضان باعتبارين؛ فنقيضه الباطل إذا أريد الاعتقادُ بثبوت أو نفي وجود شيئ، أو الحكم عليه بأنه مثلاً عدلٌ أو جورٌ.. ونقيضه أيضاً الضلال إذا أريد سلوكُ المكلَّف؛ لأنه ضلَّ عن سبيل ما جعل الله له سلوكه.. ومن الحذق للغة العب بلا تكلُّف العلمُ بالفطرة بما يُقَدَّر من الكلام وما لا يُقَدَّر في صيغتين ورد بهما النص الشرعي الصحيح مثلِ ما يقال بعد الرفع من الركوع؛ فقد كان الشيخ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى لما رأى الروايات مختلفة؛ إذ وردت مرة بصيغة (ربنا لك الحمد) بدون واو، ومرة بصيغة (ربنا ولك) بالواو: قال لم يأت في حديث صحيح الجمع بين لفظ اللهم وبين الواو.. قال ذلك في معرض الاستدلال لمذهب الإمام أحمد ابن حنبل رحمهما الله تعالى؛ لأن أحمد قال عن النص الشرعي: (إذا قال ربنا) قال: (ولك الحمد) بالواو.. أي ربنا ولك الحمد، وإذا قال: (اللهم ربنا) قال: (لك الحمد) بدون الواو.. أي اللهم ربنا لك الحمد.. والواقع أنه ثبت الجمع بين اللهم والواو.. أي اللهم ولك الحمد في حديث صحيح، وهو ما رواه البخاري في صحيحه في باب صلاة القاعد من حديث أنس رضي الله عنه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد)، ولا اختلاف بين نُسَخِ صحيح البخاري في إثبات الواو في هذا الموضع كما بيَّن ذلك الشيخ الشوكاني؛ ولهذا فالـمُصَلِّي يُراوح في صلواته بين الروايات، ويقرأ كل رواية بوجهها إن أثبتتْ الواو أو أسقطتها، ولكلٍّ من ثبوت الواو وحذفها وجه من لغة العرب؛ فإذا أثبت الواو احتُمل أن تكون الواو عاطفةً لمذكور على مُقَدَّر؛ فإذا قال: (ربنا ولك الحمد) كان تقدير الكلام (ربنا استجب ولك الحمد)، أو (ربنا حمدناك ولك الحمد)، أو (ربنا والحالَ أن لك الحمد).. وأما احتمال أن تكون الواو زائدة، وأن النص بلا تقدير فلا يجوز هذا الاحتمال؛ لأن زيادة حرف بلا معنى ممتنع في لغة العرب التي نزل بها الشرع؛ وإنما يتجوَّز بذلك الشعراء في ضرورة الشعر.. ولا ضرورة في سَعَةِ الكلام.. وأما البناء على قاعدة (أن ظاهر الكلام أولى من تقدير غيره) فذلك صحيح؛ لأنه لا يجوز إهمالُ مذكور وإعمالُ غير مذكور.. إلا أن هذا إنما يقال في احتمال معنى مقدر مع وجود معنى ظاهر، وأما ههنا فنحن بين روايتين وكلتاهما حقٌّ؛ فالرواية بدون الواو لا تحتاج إلى تقدير، والرواية بالواو لا تُفهم إلا بالتقدير بلا دعوى زيادة، وكل ذلك مقتضى لغة العرب، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنما يخاطبنا بلغة العرب.. ومن ذلك مراعاة أصول الخطاب عند عرب السليقة كصيغ الطلب؛ فقد وردت صيغ الدعاء في الركوع والسجود؛ بصيغ تُعرف عند العرب بالأوامر، ويَعرف مدلولَهالبدويُّ الأميُّ المتلفِّعُ في شملته؛ لأن مدلول هذه الصيغ يقتضي الإيجاب.. ولا ريب أن كلام العرب من شعر ونثر مليئ بصيغ أمر لا تقتضي الإيجاب كقول المستقوي بقوته: (اضرب)؛ فهذا تهديد وليس إيجاباً؛ وإنما المعنى: (إن استطعت الضرب فاضرب).. يقال هذا على سبيل التحدِّي والإعجاز.. وكقول العربي: (يا فلان انظر موطئ قدمِك) فهذا أمر لا يُفهم منه الإيجاب، وإنما يفهم منه التحذير من التهوُّر.. وفي عرف العرب أن الموظف الصغير إذا قال لرئيسه من وزير وغيره: (اكتب لفلان بكذا) أن ذلك ليس إيجاباً؛ لأنه لا يملكه، وإن كان بصيغة الأمر؛ وإنما هو مشورة واستشفاع واقتراح.. إلا أن هذه المعاني المخالِفة الإيجابَ إنما تفهم بدلائل خارجية من سياق الكلام، أو من حال المتكلم أو المخاطَب؛ فإذا لم توجد هذه الدلائل الخارجية فيجب حمل صيغة الأمر على مدلولها المفهوم منها نفسها، وهو الإيجاب بموجب لغة العرب وبدائه العقول.. ومشروعية الدعاء في السجود والركوع ثابتة بأوامر شرعية، وليس هناك قرائن أو دلائل تصرفها عن أصلها؛ فوجب أن تُحمل على أصلها، وهو الوجوب؛ لأن أوامر الشرع إذا تجرَّدت من القرائن آكدُ في الإيجاب من كلام كلِّ عربي؛ وبرهان أن ذلك آكد أن الشرع إذا كان خطاباً تكليفياً فمحلُّ المخاطَب الامتثالُ؛ لأنه مكلف، ومحلُّ النص الإيجاب؛ لأن مُنزِّل النص هو الواجبةُ طاعتُه.. وأملح وأمتع وأقوى تحقيقٍ رأيته عن الأوامر في جميع كتب الأصول والمنطق هو ما كتبه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الإحكام والتقريب؛ ففي كتاب الإحكام استوفى البدائه العقلية القاضية بحمل الأمر على الوجوب في الأصل، وفي التقريب استوفى البدائه اللغوية القاضية بحمل الأمرِ على الوجوب.. ومن الأصول الواضحة الناصعة ملاحظةُ الارتباط والانفكاك بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ فقد ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه رحمهما الله تعالى إلى اشتراط الدعاء لصحة الصلاة في حالتي العلم بالحكم وذكرِه، وأما اشتراط علماء الظاهرية رحمهم الله الدعاء لصحة الصلاة مطلقاً في حالة العمد والنسيان والجهل: فلا وجه له إلا التعلُّق بأن النهي يقتضي الفساد، وهذه القاعدة إنما تصحُّ إجمالاً، ولها تفصيلات يجب مراعاتها؛ فمن عمل أمراً مُحَرَّماً في عبادته فلا تفسد عبادته إلا إذا قصد إفسادها بأن يرتكب النهي عمداً؛ فإن ارتكب النهي جهلاً أو نسياناً فجهله ونسيانه معفوٌّ عنه بموجب قواطع الإسلام إا إن كان لجهله ونسيانه كفارة مشروعة كالسجود للسهو؛ فإن لم يسجد للسهو إذا ذكر قبل إنهاء الصلاة فقد تعمَّد إفسادَ عبادته فصلاته باطلة، وهو آثم لعصيانه الأمر بالسجود.. وأما تعمُّد مُرْتكبِ المنهي عنه في العبادة فهو آثم بذلك؛ لتعمده الفعلَ، وعبادته فاسدة؛ لأنه تعمَّد إفسادها.. وكل هذه بدائه عقلية لا تحتاج إلى طول نظر.. ومثل ذلك تحقيق ما إذا كانت قراءة القرآن في الركوع والسجود تُبطل الصلاة أو لا تبطلها ما دام أنها محرمة في الركوع والسجود جاهلاً النَّهيَ، أو كان يعلمه فنسي فصلاته صحيحة، ولا إثم عليه.. ومن تعمَّد القراءة مع علمه بالنهي وذكره له فصلاته باطلة، وليس ذلك من باب اقتضاء النهي الفسادَ؛ وإنما ذلك بطريق الدليل، وهو أن من صلى معانداً الأمرَ الشرعي وهو عالم به وذاكر له فقد تعمد عبادةَ الله بغيرِ ما شرع، وكل ما هذا شأنه فهو باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).. وأما اقتضاءُ النهيِ الفساد فذلك عند اقتران فعل واجب بفعل واجب مشروطٍ لصحة الفعل الأول كالطهارة للصلاة؛ فمن تعمَّد ترك الطهارة، أو تركها نسياناً فصلاته باطلة إلا أن الناسي تصح صلاته ما ظلَّ ناسياً؛ فإن ذكر أنه صلى بغير طهارة فيصلِّيها أداءً قبل خروج الوقت، وأداءً أيضاً بعد خروج الوقت؛ فوقتُ الأداء في حقه ذِكره ذلك ما لم يكن وقتُ ذِكْرِه وقتَ نهي؛ فينتظر حتى يزول وقت النهي.. وهكذا إن ذكر وهو في صلاة فريضة أو صلاةٍ نواها نافلة؛ لأن وقت ذكره كان مشغولاً بعبادة لا يحل قطعها، ولا يُجزئ استئناف نِيَّة الأداء خلالها؛ فيكون وقتُ الأداء بعد التسليم من صلاته.
ومن تلك الأصول الناصعة ملاحظة دلالة الصيغ (أوزان الكلمات) عند عرب السليقة؛ من أجل رفع الاختلاف المُتكلَّف في ردِّ صيغةٍ ما لمادة لغويَّة مُعَيَّنة؛ بدعوى أن المادة لم تُسمع عن العرب بتلك الصيغة كقول الإمام ثعلب رحمه الله تعالى: (كل اسم على فَعُّول فهو مفتوح الأول إلا السُّبوح والقُدُّوس والذروح وهي دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهي من ذوات السموم).
قال أبو عبدالرحمن: هذا ليس بشيئ، والذي أحققه أن فَعُّولاً وفُعُّولاً صيغتان مختلفتا المعنى؛ ففُعُّول بالضم صيغة مبالغة للدلالة على اسم المفعول؛ فَيُحَوَّلُ المعنى إلى هذه الصيغة بموجب مقاييس الصرف وإن لم يوجد سماعٌ لذلك التحويل لتلك المادة بعينها؛ لأن اللفظ إذا سُمع من العرب بمعناه فليس من الضروري سماعُ جميع صِيَغه؛ وإنما العبرة بصحة التحويل إلى الصيغ صرفاً، ولا سيما أن جميعَ الصيغِ مسموعةٌ من العرب، محدَّدةُ المعاني؛ فالسُّبوح القُدُّوس بمعنى المبرَّإ من كل النقائص، المطهر من كلِّ ما لا يليق به، وهو الله جل جلاله، وقد نُقِلَت هذه الصفة إلى الاسمية للزومها؛ فأما فَعُّول بفتح الفاء فهي صيغة للدلالة على اسم الفاعل على سبيل المبالغة؛ فلك أن تقول: (سَلُّوم) للدلالة على اسم الفاعل (سالم)، وقد تكون صيغة فَعُّول بفتح الفاء للدلالة على اسم المفعول.. وقد لقيتُ هذه الأصداء الماتعة من لغة العرب الفصيحة لا تزال باقية في بعض استعمال العامة في نجد؛ فعوام أهل نجد يسمون حَبَّ الحنظل بعد استخراجه بالضرب بالعُصِيِّ وتنقيعه بالملح هَبُّوداً بمعنى مهبوداً؛ لأنه لا يوجد إلا بمشقَّة من عمل الفاعلين؛ فَسُمِّي هذا الحب بصيغة اسم المفعول على سبيل المبالغة ؛لأن شرط وجوده أن يُهْبَدَ، والمعنى أن الله (سُبُّوح) بضم السين مُسَبَّح بأقوالنا ونياتنا لا بأفعالنا، لأن ربنا مُنَزَّه لا يناله فِعْلٌ منا جل جلاله، وهو كذلك وإن كفر بسبحانيته كل المَخلوقات؛ وبهذا الملمح أَرُدُّ قولَ بعض اللغويين: (إن صيغتي سُبُّوح وقُدُّوس لا يجوز فيهما الوجهان ) بأن استحقاق الله سبحانه وتعالى التسبيحَ والتقديس جاز بصيغة فَعُّول بالفتح؛ لأن المؤمنين يسبحونه؛ ولكون ربنا سبحانه وتعالى مُنزَّه ومقدَّس في نفسه جاز التعبير بصيغة فُعُول بالضم؛ فالتقى معنيا اسم الفاعل واسم المفعول على مرادٍ واحد.. وهذا ما يتعلق باستعمال العرب، وأما صفة الله سبحانه وتعالى فهي على التوقيف، ولم أجد نصّْاً شرعياً غير وصف الله سبحانه وتعالى بالسُّبُّوح القُدُّوس بالضم.
ومن الأُصولِ الناصعة مراعاةُ الدلالة من المعهود والاقتران في السياق؛ فقد اختلف العلماء في المراد بالروح؛ فقيل: الروح مَلَك من الملائكة عليهم السلام، وقيل هو جبريل عليه السلام، وقيل خَلْق لا تراهم الملائكة كما لا نرى الملائكة؛ فكل هذه احتمالات مُرْسلة لا دليل على تعيينها، والصوابُ حَمْلُ الروح على معهودنا الشرعي - وهو جبريل عليه السلام -؛ بدلالة اقترانه مع الملائكة حتى يقوم برهان على أن المراد غيره.
ومن الأُصولِ الناصعة النظر إلى جامِع القسمة في المفاضلة بين الأشياء كالمسألة التي اختلف فيها العلماء وتوقَّفَ فيها الإمام أحمد رحمه الله، وهي الحكم بالأفضلية بين السجود وبقية أجزاء الصلاة؛ فمن فَضَّل السجود احتجَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، ومن فضَّل القنوت - وهو تطويل القيام - احتجَّ بحديث جابر الصحيح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة طول القنوت)، ومن قال: هما سواء رأى الفضل متكافئاً وأْلغى دلالة أفضل، ومن توقف في الحكم فإنما رأى الأدلة متكافئة ولم يَجد مُرَجِّحاً، ومن فضَّل طولَ القيام في الليل وفضل السجود في النهار راعى خصوصية قيام الليل للمنفرد.. والصوابُ حَمْلُ كلِّ دليل على حالته.. فالأفضل بإطلاق السجود؛ لأن السجود منتهى الإشعار بالعبودية لله والضراعة إليه، وقد تواترت النصوص على أفضيلته؛ فهو أفضل جميع أجزاء الصلاة، وهو من جهة أُخرى أحرى بقبول الدعاء، وأما تطويل القيام فتفضل به صلاة على صلاة؛ فالصلاة التي يطول فيها القيام أفضل من الصلاة التي يقصر فيها القيام؛ إلا أن السجود أفضل أجزاء الصلاتين حال تطويل القيام أو تقصيره، وإلى لقاء آتٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.