تأتي قصص بني إسرائيل، الذين تعمَّدوا معصية الله، ومخالفة شرعه الذي شرعه الله لهم، من باب العظة والتذكير، لعل قلوباً ترق، وأفئدة ترعوي. وأخبرنا صلى الله عليه وسلم: بأنها لا تصدَّق ولا تكذَّب: فلا تصدَّق مخافة أن تكون من كذبهم، ولا تكذَّب لئلا تكون من الحقّ، بل تؤخذ للعبرة، فيما وافق شرعنا، الذي جاء به نبينا عن الله
سبحانه، ونستفيد مما فيه من العِبر، ففي قوله تعالى كما في سورة سبأ على الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رجل من بني إسرائيل قد فتح الله عليه مالاً كثيراً، فمات وورثه ابن له فاسد، فكان يعمل في ماله بمعاصي الله، فلما رأى ذلك إخوان أبيه عذلوه ولاموه، فضجر الفتى، وباع عقاره، وحاز المال ورحل عنهم، فأتى عيناً في طريقه، فسَرَّح فيها ماله، وابتنى قصراً.
فبينما هو ذات يوم جالس: إذ رأى امرأة، من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، فقالت: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا امرؤ من بني إسرائيل، قالت: فلك هذا القصر وهذا المال؟ قال: نعم قالت: فهل لك من زوجة؟ قال لا. قالت: فهل يهنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال: قد كان ذاك، فهل لكِ من بعل؟ قالت: لا. قال فهل لكِ أن أتزوجك؟ قالت: إلى امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غداً فتزوّد زاد يوم واْتِنِي، وإن رأيتَ في طريقك هَولاً، قال: نعم. قالت: إنه لا بأس عليك، فلا يهولنّك.
فلما كان من الغد، تزوّد زاد يوم وانطلق إلى قَصْر، فقرع بابه، فخرج إليه شاب، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، فقال: من أنتَ يا عبد الله؟ قال: أنا الإسرائيلي قال: فما حاجتك؟ قال: دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها، قال: صدقتَ، فهل رأيتَ في طريقك هولاً؟ قال: فلولا أنها أخبرتني: أن لا بأس عليّ لهالني الذي رأيتُ، أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بكلبة فاتحة فاها، ففزعتْ، فوثبتْ، فإذا أنا من ورائها، وإذا جروها ينخر على صدرها، قالت: لست تدرك ذلك، هذا يكون آخر الزمان، يقاعِد الغلام المشيخة فيغلبهم على مجلسهم ويأسرهم حديثه، ثم أقبلتُ، حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا أنا بمائة أعز حُفّل، وإذا فيها جدي يَمصّها، فإذا أتى عليها، فظنّ أنه لم يترك شيئاً، فتح فاه يلتمس الزيادة، قال: لستَ تُدرِكُ هذا، هذا في آخر الزمان، يُجْمَعُ صامتَ النَّاس كلهم، حتى إذا ظنوا أنه لم يُترك شيء، فتحوا أفواههم يلتمسون الزيادة. قال: ثم أقبلتُ حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بشجر فأعجبني غُصْنٌ من شجرة منها ناضر، فأردت برجل معه منجل يحصد به ما بلغ وما لم يبلغ، فقال له: لو حصدتَ ما بلغ وتركت ما لم يبلغ. قال له: امضِ لا تكوننّ مكلّفاً سوف يأتيك خبر هذا. فنادتني شجرة أخرى: يا عبد الله مني فخذ، حتى ناداني الشجر: يا عبد الله منّا فخذ، قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان: يقل الرجال ويكثر النساء، حتى أنَّ الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشرة والعشرين إلى أنفسهن. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، فإذا أنا برجل قائم على عين، يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تصدّعوا عنه صب الماء في جرّته، فلم تَعْلق جرّته من الماء بشيء. قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان: القاضي يعلم الناس العلم، ثم يخالفهم إلى معاصي الله. ثم أقبلتُ حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل يمتح الماء على قليب، كلما أخرج دلوه صبه في الحوض، فانساب الماء راجعاً إلى القليب، قال: هذا رجل رد الله عليه صالح عمله فلم يقبله. ثم أقبلتُ حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل يبذر بذراً يستحصد فإذا حنّطه طيّبة. قال هذا رجل قبل الله صالح عمله وأزكاه له.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بعنز، وإذا قوم قد أخذوا بقوائمها، وإذا رجل آخذ بقرنيها، ورجل آخذ بذنبها، ورجل قد ركبها، ورجل يحلبها فقال: أما العنز فهي الدنيا، والذي أخذ بقوائمها فهم يتساقطون من عليّها، وأما الذي أخذ بقرنيها، فهو يعالج من عيشها ضيقاً، وأما الذي قد أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها فقد تركها، وأما الذي يتحلبها فبخ بخ ذهب ذاك بها.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل مستلق على قفاه، فقال: يا عبد الله إدنُ مني فخذ بيدي، وأقعدني فوالله ما قعدتُ منذ خلقني الله، فأخذ بيده، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له: الفتى ذاك عمرك فقدته، وأنا المرأة التي أتيتك أمرني الله بقبض روحك في هذا المكان، ثم أصيّرك إلى جهنّم، قال: ففيه نزلت هذه الآية {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (54) سورة سبأ.
وأخرج الزبير في الموافقات، بسند فيه شك، من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لا تهتكوا ستراً، فإنه كان رجل من بني إسرائيل، وكان له امرأة، وكانت إذا قدَّمت له طعاماً ثم قامت على رأسه تقول: هتك الله ستر امرأة تخون زوجها بالغيب، فبعث إليها يوماً بسمكة ثم قامت على رأسه فقالت: هتك الله ستر امرأة تخون زوجها بالغيب، فقهقهت السمكة حتى سقطت من القصبة، ثم قال لها: أعيدي مقالتك فعادت فقهقهت السمكة حتى سقطت من القصعة، فعلت ذلك ثلاث مرات، كل مرة تقهقه السمكة وتضطرب حتى تسقط من الخوان.
فأتى هذا الزوج عالم بني إسرائيل فأخبره، فقال: انطلق فأذكر ربك، وكل طعامك، وأخْشأْ الشيطان عنك، فقال له: أخَفُّ الناس: انطلق إلى ابن العالم فإنه أعلم منه، فانطلق وأخبره، فقال له: ائتني بكل من في دارك، ممن لم ترَ عورته، فأتاه بهم، ونظر في وجوههم ثم قال: اكشف عن هذه الحبشية، فكشف عنها فإذا مثل ذراع البكر فقال له: من هذا أُتيتْ.
فقال أبو الفتى العالم، وهتك بهتكه ذلك الستر، واحتاج إليه الناس فأتاه بنو إسرائيل فقالوا: ويحك أنت كُنت أعلمنا وأميننا.. فلما أن أكثروا عليه هرب منهم، إلى أن بلغ أقصى موضع لبني إسرائيل من أرض البلقان فجاءته امرأة جميلة تستفتيه، فقال لها: هل لك أن تمكنني من نفسك، وأهب لك مائة دينار؟ قالت: أو خير من ذلك، تجئ إلى أهلي وتتزوجني، وأكون لك حلالاً أبداً، قال: فأين منزلك؟ فوصفته له، فطالت عليه تلك الليلة.
فمضى فإذا هو بكلبة تنبح، في بطنها جراؤها، قال: ما أعجب هذا؟ قيل له: امض لا تكونن مكلفاً فسوف يأتيك خبر هذا، فمضى فإذا هو برجل يحمل حجارة، كلما ثقلت عليه وسقطت منه زاد عليها فقال له: أنت لا تستطيع تحمل هذا، فكيف تزيد عليه، قيل له: أمض لا تكونن مكلفاً سوف يأتيك خبر هذا، فمضى فإذا هو برجل يستقي من بئر ويصبه في حوض إلى جنب البئر، وفي الحوض ثقب، فالماء يرجع إلى البئر، فقال له: لو سددت الجحر استمسك لك الماء، قيل له: امض لا تكونن مكلفاً، سوف يأتيك خبر هذا. فمضى فإذا هو بظبية، ورجل راكب عليها، وآخر يحلبها، وآخر يمسك بقرنيها وآخرون يمسكون بقوائمها، فقال: ما أعجب هذا؟ قيل له: امض لا تكونن مكلفاً، سوف يأتيك خبر هذا! فمضى فإذا هو برجل يبذر بذراً، فلا يقع على الأرض حتى تنبت، ثم مضى فإذا هو بالقصر الذي وُعِد به.
وإذا دونه نهر، وإذا برجل جالسٌ على سرير، فقال له: كيف الطريق إلى هذا القصر؟ قال: لقد رأيتُ أعاجيب، قال: ما هي؟
فذكر الكلبة فقيل له: يأتي على الناس زمان يثب الصغير على الكبير، والوضيع على الشريف، والسفيه على الحليم. وذكر له الحجارة، فقيل له: يأتي على الناس زمان يكون عند الرجل الأمانة فلا يقدر يؤديها، ويزيد عليها، وذكر له من يستقي، فقيل له: يأتي على الناس زمان يتزوج الرجل المرأة لا يتزوجها لدين ولا حسب ولا جمال، وإنما يريد مالها، وتكون لا تلد فيكون كل شيء منه يرجع فيها، وذكر له الظبية قال: هي الدنيا، أما الراكب عليها، فولي الأمر، وأما الذي يحلبها فهو أطيب الناس عيشاً، وأما الذي يمسك بقرنيها، فمن أيبس الناس عيشاً، وأما الذي يمسك بذيلها فالذي لا يأتيه رزقه إلا قوتاً، والذين يمسكون بقوائمها، فسفلة الناس.
وذكر له البذر، قال: يأتي على الناس زمان لا يدري متى يتزوج الرجل، ومتى يولد المولود ومتى قد يبلغ. وذكر له الذي يحصد قال: ذاك ملك الموت يحصد الصغير والكبير، وأنا هو بعثني الله لك، لأقبض روحك على أسوأ أعمالك.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم رضي الله عنه قال: ما قرأت هذه الآية إلا ذكرتُ برد الشراب، وأخرج البيهقي في شُعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه شرب ماء بارداً فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال ذكرت الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، فعرفت أن أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد. وقد قال الله: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء}.
فكان قتادة يقول في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ}: إياكم والشك والريبة، فإنه من مات على الشك بُعثَ عليه، ومن مات على يقين بُعثَ عليه.
mshuwaier@hotmail.com