تظل بعض المواقف حبيسة الجدران، دُفنت هناك في الزمن البعيد، تناقلتها همساً بعض القلوب، وبكت إثرها الأرواح الطاهرة.
مواقف لا تُنسى، وقصص تتحسس قهر البراءة ووطأة الظروف الإنسانية التي تعتصر القيم وتشلها في كثير من وجوه الحياة وصروفها، مواقف تحدث داخل البيوت بشكل يومي، ضحاياها أطفال خطيئتهم الكبرى أنهم ولدوا هناك.
كانت صغيرة في سن يربو على خمس سنوات، كثيراً ما كانت تحلم بزيارة والدتها، لكن أباها كان يزجرها في كل مرة وينهاها عن ذكرها، فما كان من هذا النهي القاسي إلا أن يزيد اضطرام أشواقها وأفكارها نحو والدتها، كان غيابها يجعل حبها لها شفافاً ونقياً، لا تشوبه كلمات البشر الفظة القاسية، ولا تصرفاتهم الخالية من الرحمة، وكثيراً ما كانت ترنو إلى البعيد، وتتخيل أنها تركض مسافات ومسافات لتلقي بجسدها في حضنها، فتضمها بقوة إلى صدرها وتمتزج دموعهما وهي تعدها أن لن تتركها أبداً، ولكن الواقع كان أقسى من أحلامها البريئات.
كانت دائماً ما تتصرف بحياء وخجل تجاه زوجة أبيها المستبدة، وفي ذلك اليوم، وفي أثناء تناولها طعام العشاء على طاولة المطبخ، حدث شجار بين الأب وزوجته فدخلت عليها الزوجة لتفريغ غضب الشجار، والشر يغزو عينَيْها، فبدأت الطفلة توسلاتها في سرها (أرجوكِ دعيني آكل فقط، اضربيني فيما بعد، لكن علي أن آكل الآن). لم تنهِ توسلاتها فإذا بلطمة تضرب رأسها وتسقطها على الأرض، فبقيت عليها إلى أن نامت على أرضية المطبخ حتى صباح اليوم التالي. أيقظها والدها بنبرة نادراً ما يكلمها بها (صباح الخير حبيبتي، هيا لنذهب في نزهة صغيرة).
كهذه الأحداث تغوص في الذاكرة ونار ينبض بها القلب، لا تطفئها الفسح ولا الهدايا لتكون أكثر المواقف قسوةً وفتكاً بأرواح هشة تم التضحية بها قرابين لخلافات كان أبطالها آباء وأمهات لم يدركوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم ولا ثقل الأمانة.