كان أول حدث وعيته في صغري حريق المسجد الأقصى عام 1389هـ الموافق 1969م وسمعت شبان الحي يتحدثون بحرقة وأسى ويصفون كيف اندفع اليهود على حرق المسجد الأقصى وغضب العالم العربي والإسلامي، وردود الفعل الغاضبة من منظمة فتح التي كانت فدائية آنذاك على اسمها، ولم يكن في بيتنا مذياع، لأن الوالد رحمه الله كان - حينذاك - متهيبا من دخول الراديو إلى المنزل شانه شأن كثيرين من المحافظين فكنت أستمع بشغف شديد إلى قصة حرق الأقصى الدامية ممن يتباهون بمتابعة الأخبار السياسية، وما يدور من أحداث في العالم من خلال الإنصات الشديد لما يدور من حوار متثاقف متعالم يبث جملة من الجديد من الأحداث متبوعة بكثير من الآراء والتوقعات التي لا أعلم إلى الآن كيف استطاع أولئك النفر من شباب سوق الراشدي بالحوطة ممن يسبقونني بعشر سنوات تقريبا الإحاطة بكل تلك المعارف فيكبرون في عيني وأرى أن لهم منزلة أخرى مختلفة عن كثيرين من أقرانهم ممن لا يستطيعون الإحاطة بما يحدث ولا وعيه بالصورة الفريدة التي يظهر فيها ناصر أو محمد أو زيد أو سعد أو صالح من شباب شارعنا الطويل المكتظ بساكنيه آنذاك!
انطوت هذه القصة الأليمة بغصتها، وسار الزمن هادرا، وابتدأ وجه الحياة في بيئتنا الاجتماعية السعودية يتغير عن سابقه الموروث الرتيب الطيب المتسامح، واشتغلت خطابات فكرية جديدة تحرث في أرضنا، فنشط التبليغيون الذين كانوا يجوبون المدن والقرى مرة في السنة وضاعفوا نشاطهم لاقتطاع أكبر غنيمة من كعكة الجمهور المستهدف المستسلم المتلقي خطابات تتنافس على استقطابه من سلفية تقليدية واثقة هادئة هي الخطاب الرسمي لأئمة المساجد والعلماء والوعاظ المعتد بهم، إلى تبليغية منافسة يشوبها ما يشوبها من أبعاد صوفية هندية تسعى إلى أن تتجنس بالبيئة السعودية وتتلبس رداءها السلفي المسالم المصلح للذات البعيد عن الخوض في الشأن السياسي أو اللجوء إلى العنف، إلى حركة جديدة طارئة ناشئة حية متيقظة واعية بنكهة جديدة غير مألوفة، تختلف كل الاختلاف عن الاتجاهين السابقين، بل أقول ربما تزدريهما خفية في مجالسها الخاصة، أو تتذاكى وتتكئ على السلفية التقليدية في تمرير ما تريد أو اقتناص من تريد من الشبان الذين يتمانع أهلوهم عن تسليمهم للجماعة إلا بعد أن يطمئنوا إلى استقامة خطابها على السلفية الموروثة المألوفة، فيظهر أقطاب الإخوان بروح ماكرة هذا الوجه المقبول وهم يعملون على هدم المفهومات القديمة وغرس واستنبات مفهومات انقلابية جديدة لا تؤتي ثمارها آنا، بل بعد جيل أو أجيال، لتخريج كوادر قادرة على إدارة دفة الحياة من القاعدة إلى القمة، كما حدث لاحقا ونرى الآن في مجتمعنا بعد سني تلك التنشئة والتأسيس الصابرة الطويلة!
تلك كانت حركة الإخوان المسلمين اللاجئين إلى بلادنا بعد مطاردات أليمة لهم من أنظمة العسكر في مصر وسوريا بأحكام بالإعدام على كثيرين منهم!
على أن خطابا آخر كان لاهثا عجولا غاضبا نافرا من كل جديد لا يلتقي بكل الأطياف الآنفة وإن كان يتقوى بما يؤكد حججه من شواهد الفكر السلفي ليسحب إلى صفه ما استطاع من غنائم تتناهبها آنذاك الخطابات وتعمل على تجنيدها لمستقبل لم نكن ندركه ولا نعلمه ولا ندري ماذا يخبئه!
وهكذا كان فقد اجتهد من أسموا أنفسهم بجماعة أهل الحديث، أو «السلفية المحتسبة» للوصول السريع إلى أهدافهم قبل أن يسبقهم غيرهم، وأرادوا بحماقة واستعجال واعتماد تفسير غير واع ولا رشيد للنصوص، واتكاء على الأحلام والمنامات أن يقفزوا إلى التغيير المطلق الكلي من الحرم المكي الشريف بتاريخ 1 - 1 - 1400هـ الموافق 20 نوفمبر 1979م بعد عمل سنوات من التجييش وجمع الأموال والأنصار، ومجتمعنا الطيب غافل سائر في طريقه نحو بناء أنماط حديثة واكتشاف عوالم أخرى مع تدفق الطفرة الأولى، مستلذا بما فتحه له المال الذي سال بين يديه لأول مرة من آفاق حياتية جديدة وقارات في الدنيا لم تطأها قدمه من قبل، وعمالة وخدم وشركات ووجوه في مجتمعه لم يألفهم بعد كل الألفة ولم يستطع بعد التكيف معهم كل التكيف، وانكشف غطاء هذه الجماعة الحمقى بما تحدث به زعيمها «جهيمان» صبيحة اليوم الأول من محرم من القرن الهجري الجديد بإعلان اسم المهدي المنتظر!
.. يتبع
moh.alowain@gmail.commALowein@