التواصل بين الإنسان وما يحيط به ليس من الضروري أن يكون بالكلام؛ فقد يرسل رسالة ويستقبل أخرى بمجرد النظر، كما هو حال العاشق يزيد بن معاوية الذي أبدع في تصوير لحظة التواصل مع محبوبته بقوله:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
إشـارة محزونٍ ولم تتكلم ِ
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم
وقد يتعرف الإنسان على ماهية ما يرى من خلال شعار صامت.. أو حروف متفرقة.. أو مجموعة كلمات تختزل وراءها سيلاً من التفاصيل، وكماً هائلاً من المعلومات.. وقد تعارف المنظرون والمنظمون على حد سواء أن يكون لكل مؤسسة تنموية سواء أكانت أكاديمية أو خدمية أو إنتاجية “رؤية ورسالة” يضعها المخطط وراسم الإستراتيجية بعد المشاورة والمداورة أمام أنظار الجميع، ويحفظها الكل عن ظهر غيب حتى تتحد الجهود في هذا الكيان التنموي لتحقيق الأهداف التي تصبو المؤسسة للوفاء بها في ظل رؤية واضحة ورسالة محددة.. ومع أهمية هذا الأمر في مسارنا التنموي إلا أن البعض من وزاراتنا لم تولي هذا الأمر أهميته حتى الآن إذ لا توجد في مطبوعاتها ومستنداتها “رؤية ورسالة” واضحة معتمدين في هذا على ما توارثته الأجيال، وما هو في الذهنية المجتمعية محفوظ بصيغة العموم.. وهناك وزارات كان التوصل فيها لهذا عن طريق الاجتهاد الشخصي لمن هم في قمة الهرم دون غيرهم من مديري إدارات العموم فضلاً عن المستشارين و الموظفين والإداريين.. ولذا لا يعرف هؤلاء المغيبون عن هوية مؤسستهم شيئا، وحتى على افتراض معرفتهم بذلك ليس لديهم الحماس للعمل المشترك من أجل حمل رسالتهم على ضوء رؤية هذا القطاع الذي يعملون فيه.
إن “الرؤية والرسالة” ذات أهمية كبيرة في رسم خارطة الطريق وتحديد المهام والصلاحيات وعلى ضوئها يمكن قياس الإنجاز ويقاس القرب أو البعد عن الوصول إلى النجاح ومن ثم التربع على قمته.. ليس هذا فحسب بل إنني أعتقد أن مبنى الوزارة والإدارة ومكتب الوزير أو المدير فضلاً عن المحاسب ورئيس القسم والخادم و.. كل هؤلاء وغيرهم يتحدد مكان مكتبه وتصميمه على ضوء الرؤية والرسالة خاصة الخدمية منها، ولذلك من الأخطاء الإستراتيجية ما نلحظه من تصاميم غريبة وعجيبة لبعض مباني وزاراتنا تتناقض كلية مع ما يتوخى ويعتقد أنه رؤيتها ورسالتها في المجتمع .. هذا خلاف المكان الذي شيدت فيه والحي الذي تتربع في وسطه.. وربما صار مكتب المسئول عن تقديم الخدمات السريعة والهامة في مكان قصي.. وجزماً في هذه اللحظة طرأ في ذهنك أيها القارئ الكريم صور لمباني ومكاتب تحكي هذا التناقض العجيب وتؤكد ما ورد أعلاه.. ولذلك أتمنى أن نعيد النظر في تصميم مباني مؤسساتنا الحكومية، خاصة الخدمية منها، وعلى وجه الخصوص ذات الصلة بالحالات الطارئة كالمرور والشرطة والصحة والإمارة؛ إذ إن من المفترض أن يكون التصميم لخدمة المستفيد لا المسئول مستلهماً رؤية ورسالة هذا الكيان الوطني الهام.
إن البادية حين يضربون أطناب خيامهم وبيوت شعرهم يكون بيت أمير القبيلة في مقدمة البيوت وعلى أرض مرتفعة شيئا ما وتوقد ناره خارج البيت حتى تُرى من جميع الجهات.. كل هذا استلهام منهم لرؤية ورسالة هذا الإنسان الرمز في مجتمعهم الصغير.
وفي عالمنا المعاصر لفت نظري في “دبي” القريبة منا أن للمطعم “رؤية ورسالة” وضعها صاحبه أمام الجميع وبخط جميل.. ولمؤسسات الترفية والحدائق والأسواق “رؤية ورسالة” تكتب خلف تذاكر الدخول،، وللمطار وللشرطة وللمؤسسات الحكومية والخاصة رؤية ورسالة واقعية وبالإمكان تطبيقها.
إنني هنا أعيد التأكيد على وجوب وجود ما يسميه الإنجليزي “vision” واضح وواقعي تبدأ صياغته وجلسات العصف الذهني لبناء كلماته من القاع وصولاً للقمة وليس العكس.. والأوجب في نظري استلهام هذه “الرؤية والرسالة” في أعمالنا اليومية داخل أروقة مكاتبنا الإدارية وفي قاعاتنا التدريسية ومن ثم العمل الجماعي من أجل تحقيقها واقعاً معاشاً في دنيا الناس.. دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.