أبت الحروف إلاّ أن تنساب؛ لتأتي مجتمعة، ويكون لها شرف التعليق على كتاب: «آفاق الحوار في فكر الملك عبد العزيز آل سعود، للدكتور محمد بن عبد الله الشويعر. إذ إنّ الحديث عن تجربة الملك عبد العزيز في الحوار، سيمتد بطول، وعمق، وارتفاع تجربته الثريّة. فللملك عبد العزيز رصيده الضخم من الإبداع الإداري، والفكري، والسياسي؛ ولأنه كل هذه المواهب مجتمعة في تجربة واحدة، فلا أقلّ من وصفه: بـ «حامل مفاتيح الإدهاش في عصر الرتابة، وفي زمن نادر العطاء»؛ لنخرج من الكلمة إلى الواقع، ومن الحلم إلى الحقيقة، والتي يصدق فيها قول الشاعر المتنبي:
يُغني الكلام ولا يُحيط بوصفكم
أيُحيط ما يفنى بما لا ينفدُ
مقدِّمة ..
يُعتبر الحوار، نوعاً من التكامل في الرأي؛ من أجل إيصال الصوت، بطريقة حضارية هادفة. وإيضاح الحقائق، التي قد تغيب عن البعض. فبالحوار، سنشارك في صناعة الأحداث، وتبادل الآراء مع الآخرين. وبالحوار، سنصون الهوية الوطنية، وسنعيد للمنتج الثقافي، والفكري ألقه؛ لاختلاف أنماط التفكير، وثقافات البشر. إضافة إلى أهمية الاستقراء في تنويع الرؤى، والتصوُّرات المتاحة. وذلك من خلال بناء منظومة اجتماعية متكاملة.
كل الدلائل تشير، إلى أنّ التعبير عن حرية الآمال، والتطلُّعات، تتطلّب المهارات الحوارية اللازمة؛ للتواصل مع الآخرين، والتفاعل معهم. وأعتقد: أنّ هذا الأمر، لا يتم إلاّ من خلال تعزيز ثقافة الحوار، ومهاراته لدى أفراد المجتمع.
بل إنّ أهمية الحوار، تبرز باعتباره إحدى أدوات الاتصال الفكري، والثقافي، والاجتماعي، التي تتطلّبها الحياة المعاصرة، كعرض وجهة نظر ما، ومعرفة ما لدى الآخرين من وجهة نظر. وهو في ذات الوقت، يمثل أصح الخيارات، باعتباره أحد الركائز الأساسية، إن لم نقل أفضلها؛ لتكون العلاقة بين مكوّنات النسيج الاجتماعي، في إطار من الاحترام، والشفافية، والوضوح؛ للوصول إلى نتائج أفضل.
على أي حال، سأستعرض محتويات الكتاب بإيجاز؛ إيثاراً له. ومن شاء المزيد من التفاصيل، فليرجع إلى ذلك المصدر. وهذا العرض الموجز، لا يغني عن قراءة الكتاب؛ لما فيه من فوائد كثيرة، لعلّ من أهمها: التركيز على الجوانب الإنسانية في فكر الملك عبد العزيز، وما تميّزت به شخصيته النابعة من تعاليم القرآن الكريم، والسنّة النبوية؛ لتكون منهاج علاقة فريدة بين الحاكم، والمحكوم، إذ انتهج أسلوب الحوار، كمبدأ في الحياة. ومهما يكن من أمر، فإنّ الكتاب لم يغفل هذا الجانب المهم، بل أشبعه طرحاً، بتناوله الجانب الإنساني البحت في حياة الملك عبد العزيز؛ ليكون بحق «رجل العلاقات الإنسانية، بأحرف من نور»، وهو جهد مشكور، يُحسب للمؤلف. وهذا بلا شك يستدعي دراسة الثقافة الحوارية لتلك الشخصية، التي يمكن أن تؤطر في هذا المجال، بأطر علمية سليمة، حتى نستطيع استخلاص الدروس، والتجارب من هذه السيرة، ومن ثم تحويل هذا الإرث إلى منهج عملي، يكون شعاره: «السعة في النقاش، والأريحية في الحوار».
احترام الآخر .. وتقديره!
من أهم متطلّبات الحوار، احترام الآخر، وتقديره. فالاحترام المتبادل، يجعل الطرفين يقبل الحق، ويأخذ به. وهذا ما لمسته في الحوار البديع، الذي دار بين الملك عبد العزيز، وبين الأستاذ أمين الريحاني، حين كان يناديه عدة مرات، بـ «حضرة الأستاذ»، وذلك أثناء الحوار الذي جرى بينهما، والذي أعد في خيمة جهزت له. وخصلة كهذه، سترقى بلا شك بالحوار، وسترفع مستوى تحصيله، إنْ بالتحفيز، والتشجيع، أو بإنماء الثقة بالنفس، وتعزيز الوعي بالقدرات، وهو ما سيجعل من الحوار قيمته العلمية.
وعندما تتأمّل في طبيعة الحوار، الذي جرى بين الرجلين، فإنك ستلحظ تدرُّج الملك عبد العزيز في حواره مع الأستاذ أمين الريحاني، من خلال نقاط؛ من أجل أن يصل إلى حقيقة يسعى إليها، وهي الإقناع بعد التركيز على القضية المطروحة، ومن ثم مناقشة رأي الآخر بالأدلة العلمية، مع ضرورة احترام الرأي، وتقدير الفهم، ومراعاة الحقيقة.
تأمّل وصف الأستاذ أمين الريحاني، حين يقول: «ومن غريب الأمور، أننا في الجلسة الأولى تناقشنا في الموضوع»، إلى أن يقول: «قد هدم السلطان بكلمة من كلماته حواجز الرسميات، فجعل نفسه تنازلاً في مقام الصنو، والرفيق». ولا شك أنّ هدم حواجز الرسميات، ستجعل من المحاور أن يصل إلى ما يرجو من نتائج إيجابية. إذ التواضع، والإنصاف، والعدل، أدب رفيع، وخلق جميل. وهو ما أكدّ عليه أمين الريحاني، عندما أشار في نهاية الحوار إلى محاولة الملك عبد العزيز، إقناع الطرف الآخر، وإن لم يتحقق الإقناع، فعلى الأقل أسمعه وجهة نظره المختلفة بلباقة. فالحقيقة ليست دائماً مع أحد. بل يقترب منها، من تشمل رؤيته أكثر الزوايا.
إثراء النقاش .. وتبادل الآراء!
الأصل في الحوار، تبادل الآراء، وإثراء النقاش. وفي ساحة الحوار يكون الجميع سواسية، بشرط أن يؤدي الحوار إلى نتيجة، ومن ذلك: الرد على الشُّبهات بما يناسبها، وتفنيدها، وبيان عدم صحّتها. وعكس ذلك، سيستنفذ الطاقات، ويهدر الأوقات، وقد يُخرِج الإنسان من الإطار الموضوعي. وقبل أن تصل الأمور إلى هذه المرحلة، فإنّ من الحكمة، تجاهل الموضوع بما يناسب الزمان، والمكان للشخص؛ حتى لا يؤثر مستوى الحوار على القلوب، أو يكدّر الخواطر، أو يثير الضغائن. وهذا الأصل في الحوار، ستلحظه عندما سأل الأستاذ عبد الله فيلبي الملك عبد العزيز، عدداً من الأسئلة، منها: «وهل ذكر الله أمريكا في القرآن؟». فكانت إجابة الملك، بأنه: «لا يشغل باله بهذه الأمور». مع ملاحظة، أنّ الأصول لا يناقش، أو يحاور فيها، فتلك أمور مجمع عليها. وفي مناقشتها إضاعة للأوقات، وتشويش على أفهام الناس.
خذ على سبيل المثال أيضاً، عندما وصف المفكر الإسلامي الكبير محمد أسد، لقاءه بالملك عبد العزيز في مكة المكرمة، وهو يقول: «بينما كنت أهمّ بإخباره، سدّد إليّ نظرة نفذت إلى مكنون خواطري، وأفكاري، ثم ابتسم ..»، فمثل هذه الابتسامة، لا شك أنها ستفتح آفاقاً من التلاقي، والقبول، والإقبال بين الطرفين. وهي طريق إلى كسب الثقة، وفشوّ روح التفاهم. هذه اللوحة الحوارية، علّق عليها مؤلِّف الكتاب الدكتور محمد، بـ: «اتباع الملك عبد العزيز، قواعد الحوار المتكافئ «؛ ليكون هذا الأسلوب طريقاً إلى تفتّح الذهن؛ من أجل الإنصات للرأي الآخر، واستقصاء الآراء، واستقراء التصوُّرات المتاحة، واستجلاء المصالح الراجحة لمجموع الأُمّة.
ثم يقول المفكر محمد أسد: «والملك عبد العزيز، كان يستطيع أن يقطع الحوار بكلمة واحدة، هي: لا، إلاّ أنه آثر محاورة ضيفه، إما أن يقنعه، وإما أن يقتنع». فالملك عبد العزيز عندما يتحدث، لم يكن يستأثر بالكلام وحده، أو يقطع الحوار بكلمة «لا». بل كان يعطي من يحاوره فرصة التعبير عن رأيه، وبيان الأدلة عليه، باعتبار أنّ العقول، والأفهام تختلف، والمدارك تتفاوت. ولذا قال بعض العارفين: دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق، ويجيب بـ «نعم»، وحِلْ ما استطعت بينه، وبين «لا»؛ لأنّ كلمة «لا» عقبة كؤود، يصعب اقتحامها، وتجاوزها، فمتى قال صاحبك: «لا»؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه، أن يظلّ مناصراً لنفسه. إن التلفظ بـ»لا»، ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه، وعضلاته، وغدده، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض، أما حروف « نعم «، فكلمة سهلة رقيقة رفيقة، لا تكلف أي نشاط جسماني.
وعندما يصف المفكر محمد أسد، شخصية الملك عبد العزيز، بأنه: «كان يناديني بوصفي الصديق، ويعاملني بهذه الصفة « على الرغم من أنه ملك، وأنا لست إلاّ مراسلاً صحفياً». فهذا دليل عملي على ضرورة إنزال الناس منازلهم، وعدم بخسهم أشياءهم.
الاختلاف .. سنّة كونية!
قد يحدث أثناء الحوار، نوع من التنافس بين الطرفين، ويرغب كل منهما في إظهار رأيه، وبيان صحته، إلاّ أنّ الملك عبد العزيز، كان يسلك الطرق العلمية في أصول الحوار، وذلك من خلال تقديم الأدلة المثبتة، أو المرجحة لرأيه، دون أن يلزم أحداً بمقتضى كلامه، أو يؤاخذه بذلك. ومثل هذا الحوار يدخل في حركة التجارب، وتبادل المعلومات، والخبرات. وهو ما رأيناه في حوار الملك عبد العزيز مع المفكر محمد أسد، عندما استدعاه ذات مساء في الرياض؛ ليكلفه بالسفر إلى الكويت، وإنهاء قضية شغلت باله، وفكره، بعد أن جعله أمام الأمر الواقع، حتى قال محمد أسد: «فكّرت بيني، وبين نفسي، كم كان على يقين، حتى قبل أن يحدثني: أنني سأوافق».
وكذلك: ما جرى من حوار بين الملك عبد العزيز، والأستاذ عبد الله فيلبي، عندما طلب منه، أن يسمح له بالسفر إلى جنوبي الرياض؛ لزيارة بعض الأماكن التي لم يزرها، أو يراها من قبل، فوافق الملك عبد العزيز، رغم المحاولات المتكررة؛ لمنعه من السفر؛ لاعتبارات كان يراها. إذ يقول عبد الله فيلبي، واصفاً المشهد: «حسناً، إنني أرغب في السفر.. ولكن أيها الحكيم، يبدو أنك لا تود حقيقة أن أقوم بالرحلة، إن كان الأمر كذلك أخبرني، وسأتفهّم الدوافع التي أملته عليك».
ومثله أيضاً الحوار الذي دار بين الملك عبد العزيز، والأستاذ محمد أمين التميمي، عندما طلب تصريحاً له بالسفر إلى فلسطين لمدة شهر؛ لزيارة والده المريض، وكانت رغبة الملك خلاف ذلك، وحاول ثنيه عن السفر، إلاّ أنه أذن له بذلك حين استمع إليه، حتى قال عنه: «ما لمسته في هذا الرجل العظيم من حلم كبير، وتواضع جم، وإصغاء حتى لأجلاف الناس، ورجوعه إلى الحق حيثما وجده، جرأتني كل هذه الصفات التي عرفتها عنه، على توجيه أمر جلالته إلى أنه أصدر أمراً سامياً بشأن سفري، وأني لا أزال أعد ذلك الأمر قائماً».
إنّ قبول الآخر لا يعنى بالضرورة اقتناعي برأيه، فللكل الحق في اتخاذ التصوُّر الذي يراه، وإنما هو إقرار بوجود رأي آخر. فالاختلاف، سنّة كونية، يطبعه النقد. بل هو جزء من حال التعدد في الكون كله، فالكون لا يسود إلاّ بالتعدُّد، والاختلاف بين الآراء. ولذا فإنّ احترام إنسانية الآخر، واجب شرعاً، والعدل معه، علامة من علامة التقوى. كما أنّ قبولنا بالآخر، يحمل في طياته بعداً إيجابياً، يتمثل في تبني الحقيقة كما نراها، دون أن ندعي امتلاك الحقيقة كلها. فالحق لا يُعرف بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحق.
وقبل مغادرة هذه النقطة، فسأشير إلى ما أورده الأستاذ أحمد عبد الغفار، في كتابه «صقر الجزيرة»، بعد أن أحال الملك عبد العزيز الكتاب إلى الشعبة السياسية في الديوان الملكي؛ لتبدي رأيها فيه، فحُذف منه بعض أجزائه. فلمّا عُرض الموضوع على الملك، أمر بإثباته. وعندما رأى المؤلف، الأخذ بحديث الملك بلغته العاميّة، قال له الملك: «دع كلامي، فلا ضرورة له، بعد أن نقلته بأسلوبك العربي الجميل».
التنوُّع ضمن الوحدة .. والوحدة ضمن التنوُّع!
إنّ الحوار مع الآخر، يبحث عن قواسم مشتركه بين مكوّنات المجتمع، لننظر للأمور حينئذ بمنظار مختلف، والتفكير بطرق جديدة، والوقوف طويلاً للنقاش، والبحث عن الحقيقة. فالحوار، يجب أن يكون هو الفصل، والفيصل، كما عبّر عنه ربنا سبحانه في قوله: {.. وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..}. وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، في إطار التنوُّع ضمن الوحدة، والوحدة ضمن التنوُّع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ ترسيخ ثقافة قبول الآخر، عن طريق ترسيخ لغة الحوار، هو إقرار حقوق كل المكوّنات الفردية من تبادل الأفكار، والبراهين، والحجج؛ لنستوعب مدركات العالم من حولنا، طالما أنّ هذا الاختلاف لا يمس الأمور العقدية، أو الثوابت الدينية، ويمنع التطاول على الرموز الدينية، والأشخاص، ويركز على معالجة الأخطاء، لا شتم المخطئين.
وهذا الحديث، سيجرنا إلى الحديث عن سياسة الإقصاء، وتمظهرها في مصادرة الحقيقة، واحتكارها وفق سياسة الآية القرآنية: {.. مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. وهي سياسة، تتمثل في علاقة سلبية بين أطراف المجتمع، تبدأ بحالة خلاف، وتنتهي بنفي أطراف خارج حقوق المواطنة. عندما تجرّم حق النقد، وإبداء الرأي في فضاء الوطن الواحد، وهو ما لم نتأقلم معه بعد. مع أنّ الواجب هو الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وتفهُّم مواقفها سواء اختلفنا معها، أم أيدناها.
ما سبق، يؤكده الحوار الذي جرى بين الملك عبد العزيز، وخالد الحكيم حين اختلفت الآراء، وقال الملك: «إذن أنا لا أفهم. فرد عليه الحكيم: إن جلالتكم تفهمون، وأنا أيضاً أفهم «، وفي الليلة التالية، حضر خالد الحكيم إلى مجلس الملك، والملك يحادثه كعادته، فيقول: «وكأنما الملك شعر بما في نفسي، فقال في نهاية الجلسة: الحمد لله يا عبد الحميد، أننا قمنا اليوم على تفاهم مع خالد، ونحن يوماً نختلف، ويوماً نتفق، والأيام كفيلة بإظهار المخطئ من المصيب».
مع الأسف فإنّ ثقافة «الإقصاء»، والتي تمثّلت يوماً من الأيام في شخصية القائد الملهم للأُمّة، لم تنقرض بعد. فقد برز على السطح في الآونة الأخيرة خلافات حادة، رأينا من خلالها عدم قبول فكرة الآخر، وحقه في التعبير عن الرأي. فكانت هذه الحالة مع الأسف أقرب إلى التدابير السلطوية، وفق أجندة أيديولوجية ظلّت حبيسة الأدراج، يتم استدعاءها عند الحاجة. وبالتالي كانت هذه الرؤية، الركيزة الأساسية؛ لاستبداد ثقافة الإقصاء، وسيادة الرأي الواحد، حتى وصل الأمر إلى حد السب، والتشهير، والتخوين، والتكفير. وغاب نقاش الفكر مع الفكر، وحوار العقل مع العقل. وعدنا إلى المربع الأول حين ضعفت الثقة، وولدت حالة من الهشاشة في البنية الثقافية، والعلمية، والفكرية.
إيجاد نقاط تواصل بين أطراف الموضوع!
إذا كان الرأي البنّاء حول فكرة « ما « يمكن قياسها، فإنّ بذل الجهد لوصفها عن طريق إبراز الإيجابيات، والسلبيات بشكل منضبط، ووفق ضوابط شرعية، أو عقلية؛ من أجل دفع توجه العمل نحو الأمام، مطلب مهم. ولإيجاد نقاط تواصل بين أطراف الموضوع، فإنّ عرض وجهات النظر على عقولنا بكل شفافية، دليل على إمكانية التشخيص العلمي الدقيق؛ لتصحيح الأخطاء، وعدم تراكمها، كما أنه دليل على ثقة المنقود بقدراته، ونزاهته. وبالتالي فليس من الرأي البنّاء، الدخول في النيّات، والخوض في المقاصد.
هذا المسلك، انتهجه الملك عبد العزيز في معالجة الخلافات القبلية. ومن ذلك، ما رواه على سبيل المثال الأستاذ عبد الله فيلبي، من استقبال الملك لأمير الخرمة سعد بن خالد بن لؤي، « وكان على خلاف مع بعض عشيرته من مشايخ الخرمة ...»، إلى أن تمكن الملك عبد العزيز: «من إقناع الأطراف المتنازعة في قبول السلام، وحملهم على تقبيل بعضهم بعضاً؛ ليكون دليلاً على تصالحهم، وتراضيهم».
الاستماع .. والإنصات!
يُعتبر حسن الاستماع، من أكثر آداب الحوار أهمية؛ من أجل فهم آراء المتحاورين، والاستماع إلى وجهة نظرهم، والاستفادة من أطروحاتهم. فالحوار يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية. ويتجلّى هذا الخلق في حسن استماع الملك عبد العزيز؛ لحوار ابنه الملك سعود مع المفكر محمد أسد. وهو ما وصفه مؤلف الكتاب الدكتور الشويعر، بأنّ الملك عبد العزيز ترك المجال لابنه، يتحدث بكل حرية، ولم يقاطعه، وجعل محمد أسد، يرد على أسئلته دون تدخل منه. بعدها شاركهما الملك عبد العزيز الحوار بكل رفق، وهدوء. وتبادلا الحديث بكل أريحية، واحترام.
ضبط الفتوى .. وتوحيد مرجعيّتها!
كانت الحاجة شديدة إلى ضبط الفتوى، وتوحيد مرجعيتها، وسد الباب أمام الفتاوى الشاذة. التي لم تُراع المصالح، والمفاسد، ولم تراع المآلات في الأقوال، والأفعال، كما لم تراع التوازن بين الكليات، والجزئيات. ناهيك عن جهلهم بالأدلة، وأنواعها، واختلاف مراتبها في دلالتها، وكيفية استنباط الأحكام منها، وطرق الترجيح فيها.
خذ على سبيل المثال: عندما أراد الملك عبد العزيز، إنشاء محطات السلكي، واللاسلكي، ظهر بعض المعارضين لهذه الفكرة، بحجة أن التعامل مع الكفرة: لا يجوز، وبالتالي فإنّ الاستفادة من علمهم، وتجاربهم، أيضاّ لا يجوز. فعقد مؤتمراً ضم المئات من أهل العلم، وذوي الحل، والعقد؛ لأخذ الرأي الشرعي في مثل هذه المسائل المستجدة، فأعلنوا بالإجماع: أنها جائزة، فالحكمة ضالّة المسلم، أنّى وجدها، فهو أحق بها.
من جانب آخر، فإن سنّ مشروع يضبط إصدار الفتاوى، ويقنّنها؛ من أجل قطع الطريق أمام من تصدّر الفتوى من غير أهل العلم، والحجر على كل مفت جاهل، تجرّأ على الفتوى بغير علم، يدفع عنا تصادم النصوص، كما يدفع عنا تصادم الذوق العام، والفضيلة، والفطرة. فالفتوى ليست إبداءً لرأي شخصي، أو تحكيماً لعقل مجرّد، أو استجابة لعاطفة نفسية، أو تحقيقاً لمصلحة شخصية متوهّمة. بل هي إخبار عن حكم الله بالدليل لمن سأل عنه، والمفتي هو المخبر عن حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا بلا شك يؤكد، أهمية الثقة بفتاوى العلماء الربانيين الراسخين في العلم، والاطمئنان إليها، ونشرها في المجتمع.
يؤكد ما سبق، حوار الملك عبد العزيز مع أحد طلبة العلم، حين عارض استقدام خبراء أميركيين؛ لتطوير الزراعة في البلاد. فطلب من العلماء، والقضاة أن يفصلوا بينهما، باعتبار أن الإصلاحات الشاملة، والتطوير المستمر في المملكة للأنظمة، قد شملت عدداً من المجالات التنموية. وهي تسير حسب متطلّبات، واحتياجات المجتمع السعودي، وتحقق نجاحاً ملموساً، مع الحفاظ على ثوابت المجتمع، وما يتمتع به من عادات، وتقاليد، وشمائل موروثة قيمة، واجتناب ما يخلّ باستقراره، وأمنه. فأيّدوه كون ذلك يدخل في باب السياسة الشرعية، حتى سأله الملك بعد ذلك: «هل رضيت؟»، فأجاب: «أنه يطيع قرار العلماء». فالاتفاق إذن على منطلقات ثابتة، وقضايا مسلّمة، سيقود الحوار إلى طريق مستقيم، لا عوج فيه، ولا التواء، أو هوى الجمهور، أو الأتباع.
كما أنه لا يمكن لدولة، أن تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد إلا بتحقيق أصل الذرائع، وإتقان إيجادها في كل ضرورة من الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، بحسب ما تقتضيه حال كل ضرورة. وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية؛ لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح، ودرء المفاسد، وما كان خلاف ذلك، فإنّ الشرع لا يقرّ إفساد أحكامه، أو تعطيل مقاصده، ولذا فإنّ رجوع هذه القاعدة إلى أصل اعتبار المآل، الذي قامت الأدلة الشرعية على تأكيدها، كافٍ في اعتبارها، والتفريع عليها.
وبالتالي، فإنّ الملك عبد العزيز لم ينفعل في حواره مع طالب العلم، فالانفعال سيكون طريقاً؛ لإلغاء العقل، ومن ثم الدخول في دائرة الغضب، ربما يندم عليها لاحقاً. بل كان غاية حواره معه إقامة الحجّة، ودفع الشُّبهة، والفاسد من الرأي؛ ليقبل الآخر بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاوران، والالتزام الجادّ بما يترتب عليه؛ حتى يكون ذلك أدعى إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس، مع ضرورة الإبقاء على حبل المودة. فالحجّة إما أن تكون نصّاً نقلياً صحيحاً، أو حجّة عقلية قاطعة.
حسن رعاية الموضوع!
حوار الملك عبد العزيز مع طالب الدية بلهجته العامية، دليل على طول نفسه في الاستماع إلى الناس، وعدم قطع حديث المحاور. وهذه المهارة تقود بلا شك إلى فتح القلوب، واحترام الآخر. كما أنه مؤشر على المستوى الرفيع للغة الحوار، والاختلاف في الرأي. وهذا ما فعله طالب الدية، حين وجّهه الملك عبد العزيز في نهاية الحوار، بالذهاب إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، فقال الرجل: «.. وأنت الصادق، ما هنا إلاّ حكم الشرع».
ومثله أيضاً حديثه مع اللصّ الذي كان يسرق ليلاً، وينام نهاراً. ومع المرأة طالبة القصاص. إذ يتبيّن من القصتين، حسن رعاية الموضوع،، وتصوّر القضية، وعدم الخروج منه؛ حتى لا تكون الأفكار مشوّشة، أو متداخلة. بل تربط الأفكار بعضها ببعض، ومن ثم يظهر الاعتدال في تقديم الحل؛ من أجل الوصول إلى الحق، دون الانتصار للنفس.
ثم إنّ الملك عبد العزيز، عندما أنهى الحوار في القصص الثلاث السابقة، فإنما أنهاه بكل أدب، ولباقة، وبمهارة لا تدل على العجز، بل على الثقة بالنفس. فثمرة الحوار، هو الوصول إلى الحق بأقرب الطرق، وأحسنها؛ من أجل التسليم بالنتائج. كما أن لغة الحوار، مهما بلغت بين الطرفين، فإنّ ذلك لم يمنع الملك من الاحترام، والتقدير للآخرين، مع أنه لم يجزم برأيه، وأنه هو الصواب المطلق؛ تحقيقاً لقول الشافعي - رحمه الله -: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
تقريب وجهات النظر .. وتوضيح المواقف!
ما أجمل أن نتلطف في عباراتنا، فننتقي أعذب الألفاظ، وأحسنها؛ حتى نستطيع فتح مسامع القلب قبل الأذنين، وحتى يتقبل الآخر النقد بصدر رحب، فالهدف الإصلاح، وليس الانتصار للذات، والحصول على مكاسب شخصية. والنقد البنّاء، هو أول إشارات الانطلاق إلى تغيير الواقع نحو الأفضل، ودفع المسيرة إلى الأمام من خلال تقييم أداء المنتقد. وهو هديّة، إن عرفنا كيف نقدمها على طبق من المحبة. فأُمّة بلا نقد، أُمة بلا إبداع، ولا مستقبل واعد أفضل. تلك خلاصة أفكار، لمستها في حديث الملك عبد العزيز مع الرئيس الأمريكي روزفلت، في يناير 1945م، والتي أراد من خلالها استخلاص الحق من الرئيس الأمريكي للشعب الفلسطيني، ولو من بين ركام الباطل الكثير، الذي ربما جاء به.
إنّ الحوار يخدم القضايا الإنسانية المشتركة ولا شك، وهو أقرب وسيلة؛ لتقريب وجهات النظر، وتوضيح المواقف. فهو لا يلغي الفوارق، والاختلاف، بل يؤكد على الخصوصيات الثقافية، والحضارية، والعقائدية. ويسعى إلى تأسيس العلاقات الإنسانية من خلال التركيز على القواسم المشتركة، وتعميقها، وتحقيقها، وحمايتها.
وبعد ..
يتبيّن مما سبق، أنّ الحوار فريضة، وهو سنّة الحياة، ومنطق التاريخ. وقد سنّ القرآن الكريم سنّة الحوار مع المخالفين، وجعل ذلك إحدى وسائل الدعوة إلى الله. كما أنّ الحوار، هو أحد المعطيات الأساسية للوجود الإنساني، وهو الأساس؛ للتعايش السلمي المشترك، ومدّ جسور التواصل بين البشرية بمختلف أديانها، وعقائدها، وأجناسها، فهو الطريق الوحيد لكل ما سبق.
إنْ جاز لي أن أختم بشيء، فهي الإشارة إلى ما أورده مؤلِّف الكتاب الدكتور محمد بن عبد الله الشويعر، من ضرورة الكشف على بعض جوانب الفكرية، لشخصية الملك عبد العزيز - رحمه الله -، حتى: «تكون مقدِّمة لبحوث، ودراسات تالية، تتناول مثل هذا الموضوع، وأن يستفيد الباحثون، والباحثات من هذه الدراسة في تقديم جانب آخر عن شخصيته - رحمه الله -».
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية