|
ريف حلب - سليمان الأسعد:
قصص حزينة تلك التي يعيشها السوريون كل يوم، يروونها كحاضر حي، ويعيشون تفاصيلها كجزء منها لا كمعاصرين لها فحسب، هي في الواقع تاريخٌ يُصنع لحظة بلحظة، شهوده أحياء مثقلون بالأسى والألم، يعانون يومياً أكثر من مرة ، ويبكون من فقدوا في هذه الرحلة الطويلة، يحاولون إكمال طريق لا يعرفون تماماً أين وكيف سينتهي، ولكن داخلهم إيمان راسخ بأن هذا الطابع الملحمي لحياتهم الحالية سيكتب لهم قصة حياة جديدة ذات يوم.
لكل سوري يسكن تلك البلاد قصة مع هذه الثورة، ولكل مدينة رحلة قطعها أبناؤها منذ صرختهم الأولى في سبيل الحرية الموعودة، إنها منظومة من المشاهد التي تغيرت بالكامل على مستوى المعيشة والمعطيات والواقع اليومي، فغيرت في ظرف أيام فقط طبيعة الحياة بفعل الظروف الصعبة، وعادت بالزمن إلى قرون ماضية حيث ليس ثمة غير خيارات بدائية تكفل الحد الأدنى الممكن للبقاء على عنق زجاجة الوجود، «الجزيرة» تنقل لكم في هذه السلسلة فصلاً من هذا التاريخ، بما يستحقه الأمر من تسليط الضوء على كواليس إنسانية وأخلاقية واجتماعية قد لا يطلع عليها المتابع للعناوين الرئيسة في الأزمة السورية، وكذلك تتبع المواقف البسيطة التي عايشها وتعايش معها الناس، والتي جعلت منهم أبطالا على طريقتهم في أسلوب تعاملهم مع مايحدث بشجاعة لا تقل عن شجاعة من تصدروا مشهد المواجهة العسكرية مع قوات النظام، في الحالتين لم يدخل المستحيل في قاموس التصرف، وفي الحالتين لا معنى لكلمة «استسلام».
تحملنا السيارة إلى حي منزوٍ في قرية بريف حلب، حيث تقيم جبهةُ النصرة أحدَ معسكراتها، وينتهي بنا الطريق المرتفع إلى سلسلة من البيوت المتلاصقة المطلة على واد سحيق، يجلس في ظلالها رجلان يتناولان وجبة من السمك المقلي، اتضح أن أحدهما هو «أمير المعسكر».
ودون أن يوقفنا أحدٌ خلال هذا السير الهادئ في الحي/المعسكر ليسأل عن هويتنا أو وجهتنا، نترجل من السيارة باتجاه الرجلين اللذين يقفان لرد التحية بابتسامة حفية، لكن الأمير الذي يتحدث بلطف جمٍّ يعتذر عن إجراء أي حديث صحفي أو التقاط صورة في المكان، ثم يدعونا لنشاركه وجبته الثمينة في منطقة يعاني المدنيون والمقاتلون فيها من شح الطعام.
وبينما يحضر أحد الجنود كأس الماء الذي طلبتُه، يركض طفل في العاشرة من عمره بملامح أوزبكية خارجاً من أحد البيوت، ثم يأتي شاب عشريني أفغاني الوجه ليتحدث مع الأمير بعربية ضعيفة عن عطل أصاب إحدى السيارات.
كان الرفض متوقعاً، فجميع من في المنطقة يتحدث عن الغموض الذي يكتنف هذا التنظيم، والتكتم الذي يفرضه على نشاطاته، كما أن زعيمه الذي يسمي نفسه أبو محمد الجولاني لا يظهر في الصورة أبداً، ولم يشاهده أحد ممن التقيتهم في ريف حلب أو ريف إدلب، لكنه وزع بياناً صوتياً قبل أيام، ربما لتكذيب شائعة وفاته التي انتشرت عقب إحدى المعارك.
ومن الواضح أن احتكاك عناصر الجبهة بالسكان محدود في إطار الضرورة، لكنه يتسم أيضاً بالطيبة وحسن الخلق كما يقول محمود عساف، أحد الناشطين الإعلاميين في ريف حلب: «يحظر التنظيم على مقاتليه أن يحملوا السلاح بين المدنيين، ويلزمهم أن يقفوا في الرتل لشراء الخبز، كما يفرض إجراءات تأديبية على أي فردٍ يبدي سلوكاً غير منضبط».
وبمناسبة الحديث عن الخبز الذي يشكل أزمة يومية لسكان الشمال السوري، يقول عساف إن الجبهة تبرعت بأكثر من 4000 لتر من المازوت (الديزل) لتشغيل المخبز الآلي في بلدة كفر حلب (غربي حلب المدينة) فعاد سعر الخبز إلى 40 ليرة (0.4 دولار) بينما وصل سعره في مناطق أخرى إلى 400 ليرة (4 دولارات).
وتقيم الجبهة محاضرات توعوية للمدنيين والعسكريين (حتى من خارج التنظيم)، كما يشير أحمد مزّق، أحد المقاتلين في لواء التوحيد بريف إدلب: «حضرت درساً دينياً ألقاه شاب جزائري في المسجد حول أخلاق الجندي المسلم».
ومنذ بدء نشاطها في سوريا أواخر العام 2011م، استطاعت جبهة النصرة أن تبني لنفسها سمعة طيبة في أي بقعة تنزل فيها داخل البلاد، إلى درجة جعلت الناشطين -على اختلاف توجهاتهم السياسية والأيديولوجية- يدافعون عنها، فسميت إحدى الجمع: (لا إرهاب إلا إرهاب الأسد) رداً على إدراج الولايات المتحدة لهذه المنظمة في قائمة الإرهاب.
ولا يحدث أن تسمع أحداً في الريف الحلبي يعرب عن استيائه من وجود الجبهة، فعساف، رغم توجهه العلماني، لا يجد أي مبرر لرفض التعاون مع تنظيم يتبنى أفكاراًَ متشددة: «تركنا وحدنا ولم يساعدنا أحد.. لا الغرب ولا الشرق.. والجيش الحر لا يتلقى أي مساعدات عسكرية ممن يسمون أنفسهم أصدقاء سوريا، فما الذي يمنع أن نستقبل النصرة وغيرها كي تدافع عنا في وجه نظام متوحش؟».
ويكثر الحديث في وسائل الإعلام عن غلبة العنصر الأجنبي على حساب السوري في الجبهة، لكن النقيب ناجي مصطفى يستبعد هذا التقدير المبالِغ، مشيراً إلى أن نسبة السوريين تفوق بكثير نسبة العرب والأجانب.
وتأتي شهادة النقيب ناجي، الذي يقود فصيلاً من لواء أمجاد الإسلام (التابع للجيش الحر)، من واقع تعاونه مع الجبهة في معركتين إحداهما كانت العملية الشهيرة التي انتهت بتحرير الفوج 46 وهو المكان الذي كان يقصف منه الريف الحلبي المجاور، وقد شعرتُ بأهمية هذه العملية حين استسلمت في الليل لنوم عميق لم توقظني خلاله أصوات القذائف، كما فعلت معي في مناطق أخرى!
وفي معرض دفاعه عن الوجود الأجنبي على الأرض السورية، يروي أبو صالح، وهو مدرّسٌ خمسيني يسكن الريف الحلبي، قصة طبيب ألماني شاب مسلم (أصوله غير عربية) باع عيادته في بلاده والتحق بالجيش الحر ثم تلقفته جبهة النصرة وجندته في صفوفها: «هَجَر هذا الشاب الناجح حياته العملية والشخصية التي قد يتمناها أي فرد على الأرض، وأتى إلى هنا كي يموت دفاعاً عني، فكيف تقنعني أنه ينوي تخريب وطني؟!».
ويضيف أبو صالح باسماً: «ألستَ قادماً من إسبانيا؟ كم أجنبياً قاتل من أجل حرية الشعب الإسباني في الحرب الأهلية وكان معظمهم من أبرز مثقفي أوروبا وأدبائها، واليوم تماثيلهم تملأ ساحات البلاد عرفاناً بجميلهم؟».
وعلى الصعيد القتالي، ترتبط الجبهة بعلاقات متميزة مع بعض ألوية الجيش الحر، كما يقول النقيب ناجي، فهم يشاركون في أي معركة يدعون إليها دون شروط مسبقة: «لديهم حساباتهم الحربية الخاصة، لكنهم عموماً يلبون نداء المعركة حين نحتاجهم، ولديهم ما يكفي من الذخيرة والمؤن كي يزودوا أنفسهم».
ومع أن النقيب ناجي، الذي انشق عن النظام منذ تسعة أشهر، لا يملك معلومات مؤكدة حول مصادر التمويل الذي يتلقاه التنظيم، إلا أنه يرجح أن تكون الغنائم التي تظفر بها الجبهة من معاركها مع النظام هي المصدر الأساس.
ويمتدح هشام مواس، الذي شارك كمقاتل ضمن لواء أمجاد الإسلام في تحرير الفوج 46، أداءَ عناصر الجبهة في المعركة: «وجودهم فعال وحاسم، لأنهم يقاتلون ببسالة لا أجد مثيلها لدى بعض مقاتلي الجيش الحر الذين يغشاهم شيء من التردد في بعض المواقف، بينما عناصر الجبهة يقدمون على الخطوات الخطيرة بشجاعة واضحة».
لذلك أصبح المواطنون يطمئنون إلى نتيجة أي معركة تشارك فيها الجبهة، كما يقول مواس: «لا لقدراتهم الخارقة فحسب، بل لأنهم لا ينسحبون من المكان ما لم يفتح على أيديهم، ولا سبيل أمامهم إلا الموت أو النصر».
ويشير مواس إلى أن الجبهة ليست تنظيماً منغلقاً على نفسه، فأحد أصدقائه التحق بهم: «وهي تسعى إلى ضم خيرة المقاتلين من ألوية الجيش الحر وفق شروط أهمها الأخلاق الرفيعة والهمة القتالية والاستعداد للشهادة في سبيل الله».
ويستخفّ مواس بالمزاعم التي أحاطت بالجبهة وقت تأسيسها إذ أشيع أنها من فعل النظام نفسه لتشويه صورة الثورة ووصمها بالإرهاب: «لا يمكن أن تكون الجبهة من صنع النظام، فهي تقاتله كأنه ألد أعدائها، وهي أشد عليه من الجيش الحر الذي يعاني من ضعف التسليح والتموين».
وإذا كان محمود عساف يبدي تخوفاً من مستقبل البلاد بعد سقوط النظام إذا حاولت الجبهة وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتشددة أن ترفع السلاح في وجه الشعب لإرغامه على خيار سياسي معين، فإن النقيب ناجي يؤكد بنبرةٍ حازمة: «عندئذ، سأقاتلهم بلا تردد، لأني مع الشعب أولاً وأخيراً، وسأقاتل حتى أتيح للناس أن يختاروا شكل حياتهم في المستقبل».
لكن السوريين الذين احتكوا بجبهة النصرة يستبعدون حدوث احتمال كهذا، وسمعتُ في أكثر من مكان ضمن الريف الحلبي أن الجبهة سترتحل بعد سقوط النظام إلى حيث يحتاجها المسلمون، وينقل بعض الناس كلاماً شبيهاً عن عناصر الجبهة أنفسهم.
***
جبهة النصرة
-تأسست في كانون الأول/ديسمبر 2011م كمنظمة جهادية تحت اسم «جبهة النصرة لأهل الشام»، وهي تجمّع للمقاتلين السوريين والعرب والأجانب الذي يحاربون النظام السوري.
-يقدر عدد مقاتليها بنحو 15.000 ألفاً، معظمهم من السوريين، وفق تقارير صحفية.
-القائد هو أبو محمد الجولاني، الذي يلقب بالفاتح، وهو سوري لم تظهر صورته في وسائل الإعلام حتى الآن، والمعلومات عنه شحيحة جداً.
-تبنت الجبهة عمليات عدة ضد النظام السوري، أبرزها تفجير مبنى قيادة الأركان في دمشق، وتفجير مبنى المخابرات الجوية في حرستا، وتفجير مبنى الضباط في ساحة سعدالله الجابري بحلب.
-خاضت الجبهة عدة معارك قتالية شرسة بالتعاون مع فصائل أخرى، أبرزها معركة تحرير حلب المدينة، ومعركة الفوج 111، وتحرير مطار تفتناز، ومعركة معرة النعمان، والهجوم على ثكنة هنانو، والسيطرة على الفوج 46، ومعركة كتيبة المدفعية بالميادين.
-تنتشر معسكرات الجبهة في عدة محافظات سورية، أهمها حلب وإدلب وريف دمشق.
-صنفتها الحكومة الأمريكية في قائمة التنظيمات الإرهابية، ما استدعى نقمة الثوار السوريين الذين سيروا مظاهرات متتالية للاحتجاج على هذا القرار.