لا أحد يستطيع التخلص من [خارطة طريقه] التي فُرِغ من رسمها قبل أن يستوي الخالق جل وعلا إلى السماء، وهي دخان. والمحاولات اليائسة إن هي إلا استجابة للتوجيه النبوي: - [اعملوا فكل ميسر لما خلق له].
خارطتي الغرائبية لها رسمان، أما أحدهما: فَخَرْبشاتي التفاؤلية, وتلك تتغير، وتتبدل في كُلِّ طرفة عين، تمشياً مع أحلام اليقظة. وأما الآخر فأزلي موثق في [أم الكتاب], وتعويل الخربشات على ما دون ذلك التوثيق، وفي إطار [يمحو الله ويثبت]. وبين أم الكتاب, والمحو والإثبات, تاهت أفهام, وزلت أقدام, واستدارت رؤوس، مُراوِحَةً بين التخيير والتسيير، وخلق أفعال العباد، والإرادة الكونية والشرعية، و[العدل ] بوصفه أصلاً من أصول المعتزلة.
فمن مفردات تلك الخارطة المحدثة، أنني حين أعود من صلاة الفجر, أرمي بجسمي النحيل المنهك على أقرب أريكة، أمام شاشة [التلفاز], ثم استدعي ذلك اللوح السحري [الآي باد], وأخوض مع الخائضين في مستنقعات المواقع، والتغريدات، والتعليقات, والمناكفات، وصراع الطوائف، وتناحر الأقليات، والمذاهب، والحزبيات, والصحف: الورقية والرقمية, وسائر المنتديات.
وقد تطول تلك الجولات، فيحصل التلوث والالتياث مَعاً، وأفقد في ظلِّهما الراحة والاطمئنان, ويستفحل عندي سوء الظن، ثم لا أفيق من هذا الوضع إلا بعد أن أسمع خَشْخَشَةَ نَعْلِ العاملة المنزلية، وهي تتهادى موقرة بأطايب الطعام, لتناول ما تيسر منه، ثم التهيؤ لممارسة ما رسم من عمل في الجامعة، أو المكتبة، أو ما قام من مشاغل طارئة. ولقد تمر ساعة, والإفطار بين يدي, لم التفت إليه، لأنني شارد في مطاردة أقوال لا تحتملها مشاعر، ولا يصدقها عقل، وقد أنهض من مجثمي متجها صوب السيارة، ولا تكون لي رغبة في الأكل، فقد بشمت من الشتائم والتنابز والتلاحي، وافتراء الكذب، وقول الزور، و النفاق، وسوء الأدب والأخلاق.
ولربما أتساءل بصوت مرتفع:
_ إلى متى هذا التيه؟
_ ومن سيوقف هذا النزيف الكلامي البذيء، وغير المسؤول؟.
_ ومتى يكون في أمتي رجل رشيد، ينهي هذه المهازل؟
تساؤلات شاردة، تركض في مفازات مخيفة. لا أحد يسمع، ولا أحد يستجيب، شرود، وضياع، فكأنهم ممن لهم قلوب لا يفقهون بها، وأعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، ومع هذا فكل يدِّعي أن ما يلفظ به الحق، وأن رأيه الفصل، وأنه لا معقب لقوله. إنه الوحل الملوث الذي نسبح فيه بمحض إرادتنا.
وحتى لو حَطَّمْتُ هذا اللوح السحري، وألقيته في لجة البحر، والتمست شويهات، أرعاها في الشعاب, أو عضضت على جذع شجرة، حتى ألقى الله على ذلك.
_ فهل أغير هذا الكون الموبوء، أو أسهم في إنقاذ الأمة من هذه الانهيارات الأخلاقية؟.
لقد جاءت التقنية الدقيقة [النانو] وجاءت معها عوارض ممطرة مطر السوء، فالتقى الطوفان على أمر قد قدر. ولم يعد بالإمكان مبادرة الأَزِمَّة, إذ لا أزِمَّة. ولم تبق إلا العناية الربانية، لإنقاذ الأمة من تلك الأوحال.
لقد توسلت من قبل بطلب إنشاء هيئة على غرار [هيئة مكافحة الفساد] لإلجام العوام، وقطع دابر قالة السوء، ومحاسبة المسيء على حصائد لسانه. ولربما تكون هذه الهيئة بارقة أمل في لجة الهرج والمرج، غير أن مجيئها بعد ما تمرد الخلِيُّون على السفاهة، لا يكون مجدياً، ولا حاسماً لفتنة قول الزور، وشهادة الزور, والجهر بالسوء لمن ظُلِم، ولمن لم يُظلم. ومن بوادر السوء أننا نستخف بالكلمة، ولا نلقي لها بالاً, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: - {إن العبد ليتكلم بالكلمة في سخط الله، لا يلقى لها بالاً, يهوي بها في جهنم} فحصائد الألسن جزء من العمل، بل هما صنوان، ومن استخف بالكلام أضاع العمل. والخاسر من كانت حسناته في ميزان غيره, وسيئات غيره في ميزانه. وهذه الخسارة تتحقق حين لا يُهْدى المرء إلى الطيب من القول.
قد ينحي المصابون بعقدة المؤامرة باللائمة على الغرب, الذي أوجف على الأمة بخيله ورجله, واحتنك ثوابتهم ومسلماتهم، وأتاهم من بين أيديهم, ومن خلفهم, وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، وطرح مشروع [العولمة] ليذوبوا في خضمِّه، ثم لا تكون لهم ريح، ولا كيان.
والأخطر من ذلك كله تشكيل الوعي الجمعي للأمة في غفلة من الرقيب، فالمواقع، والمنتديات، والتغريدات كالوابل, تتصدع منه الأرض عن نوابت سوء، تفرقُ كلمة الأمة، وتوهن عزماتها، وتسيء لأخلاقها.
ومن يظن أن وعي الأمة ثانوي الأهمية، أو أنه سهل الاستدراك، حين يُصْنع على عين الفوضى، فإنه يضرب في فجاج التيه, ويتعثر في سبل العماية. ولاسيما بعد الظواهر الأكثر إثارة وإخافة.
فالتطرف, والعنف, والإرهاب، والتعصب، وفرض الرؤى, وصراع المذاهب، وتصدير الثورات والطائفيات، والإقصاء, والأثرة، والافتراء, كل ذلك أثبت أن وعي الأمة من الأهمية بمكان، وأن الغافل عنه, كمن يرعى غنما في أرض مَسْبعة, ثم ينام عنها.
والوعي كالأرض الموات, يَسْتَنبِتُها من يسبق إليها، وحين تكون النوابت كرؤوس الشياطين، تدير الرؤوس، وتغثي النفوس, وتشعل الحرب الضروس. وذلك اليقين الذي لا يحتاج إلى برهان.
- فمن ذا الذي تخطف الناشئة, وجاءهم من بين أيديهم ومن خلفهم؟
إنه التطرف في القول، والفعل، والمعتقد، والتعصب المقيت.
- وتلك الآراء الشاذة, والتصورات الغريبة، من أيقظها في النفوس؟
إنها ثورة الاتصالات، وانفجار المعلومات, وتحول الكون الفسيح إلى قرية ذكية متعرية، لا تَخْفى فيها خافية، واستفحال الغفلة المعتقة.
هذا المستجد أصبح بدون سلطة تأطره، وبدون أهل ذكر يرشدونه، وبدون عقلاء, إذا ما أُصْدِر الأمرُ أوردوا, وبدون حُسْبة تأخذ بحجز الواقعين في الحِمَى، لتحول دون الوقوع في المهالك، وبدون مرجعية محكَّمةٍ مطاعة، تتحرك في الوقت المناسب, لِفَضِّ الاشتباكات، وحسم المواقف، ورأب الصدع.
إنها الأوحال التي يرد على كدرها الكافة، ثم لا يسلمون من تلوثها.
لقد أصبح بإمكان الكبار والصغار نساءً ورجالاً الوصولُ إلى أخطر الآراء, وأضل التصورات، وأفصح القول، وأهجنه, دون عناء، ودون رقيب.
وهذه الحرية غير المسؤولة, وغير المنضبطة، وتلك الإمكانيات المذهلة، حين لا يَعْقِلها العالمون, تكون نذير شؤم على وحدة الأمة الفكرية، و على أخلاقها النقية.
وذلك عين الاغتسال في الأوحال.