في زماننا هذا ماتت بعض الضمائر، وساد حب النفس والأنانية؛ فشاعت الرشوة، وانتشرت المحسوبية والوساطة، وعم الفساد؛ فاستغل كثير من أصحاب النفوذ نفوذهم، يأكلون أموال الناس بالباطل، وينهبون المال العام، ويخونون الأمانة التي أولاها إياهم ولاة الأمور،
وهذا ما نراه متجسداً - للأسف - في ديارنا العربية، قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} الأحزاب 72.
إن الناظر لحال الفساد بكل صنوفه اليوم يرى بوضوح أن رائحة الفساد تعج هنا وهناك، وفي كل عام تصعد نسبته عن العام الذي قبله، حتى يمكن القول إنه اقترب من (الحلقوم)، وساد عند الكثيرين اعتباره القاعدة في التعاملات، وأن الأمانة والشفافية هما الاستثناء، وأصبح الفاسدون يتطاولون في البنيان.
هذا التطاول على الأموال العامة يحدث جهاراً نهاراً رغم أن الدول العربية هي أكثر من غيرها في أجهزة الرقابة المالية والإدارية. الرقابات السابقة التي تتولاها وزارات المالية والرقابات اللاحقة التي تتولاها دواوين المحاسبات والسلطات القضائية، تلك الرقابات وغيرها تعاني قصوراً في استخدام الأساليب الحديثة المتطورة في تطبيق نظم الرقابات وغيرها من أنواع الرقابات، ناهيك عن أن الأنظمة والقوانين واللوائح المفسرة لها عددها كثير، ولا تحتاج دولنا إلى أي تشريع جديد، لكن صياغة القانون أو النظام شيء وتطبيقه شيء آخر.
لكن كل القوانين التي صيغت صياغات شرعية وقانونية ونظامية بإتقان لا يبارى لمكافحة هذا الداء العضال احتال البعض عليها ببراعة متناهية، بأسلوب تغلب على صياغتها؛ ليحولوها إلى حبر على ورق؛ فامتلأت جيوب الفاسدين بالمال الحرام من خلال تنفيذهم الخبيث لخططهم في الاستيلاء على المال العام وإرهاق عاتق المواطنين في الرشاوى والهدايا، وأصبح ثراؤهم الفاحش ظاهراً للعيان، لا يحتاج إلى بيان.
هؤلاء الفاسدون يزداد ثراؤهم ثراءً، وبعض إخوانهم يزداد فقرهم فقراً، ومن يتتبع أموالهم قبل (السلطة) يجد أنهم كانوا من متوسطي الحال، ثم بين عشية وضحاها قذفت بهم الأقدار ليتولوا منصباً ذا شأن؛ فتحولوا بقدرة قادر إلى أصحاب ثروات هائلة وقصور وعمارات فارهة، وأصبحوا من وجوه المجتمع، رغم أن رواتبهم ومكافآتهم وبدلاتهم المحددة لمناصبهم لو بقوا عليها دون أن تمتد أيديهم إلى المال الحرام لما سكنوا قصوراً وشيدوا أبراجاً تطل على البحار والأنهار.
والدليل على ما قلناه أن بعض الدول العربية التي تعرضت أنظمتها السياسية لتغيرات جذرية أعلنت السلطات التي تولت الحكم فيما بعد أن الفساد كان يأكل اقتصاد تلك الدول كما تأكل النار الهشيم، وهذا لا يعني أن الفساد قلَّت شراسته في تلك الدول، وأخرى غير مستقرة سياسياً وأمنياً تنهش أجسادها حروبٌ أهلية، تنذر بتقسيمها، بل على العكس فقد تراجع ترتيب تلك الدول في قائمة الدول المعنية بمكافحة الفساد حتى أصبحت المؤشرات تنذر بكارثة محققة تأتي على الأخضر واليابس.
مثلاً: الصومال صاحبة أكبر حرب أهلية بعد زياد بري حصلت على الرقم 174، أما السودان فترتيبه 173 بعد أن أصبح جنوبه الدولة رقم 193 في منظومة الأمم المتحدة؛ لتصبح السودان أول دولة في التاريخ العربي بل والعالم تمنح جزءاً غالياً من ترابها على طبق من ذهب لتؤسس دولة أخرى، ثم يحتل العراق الجريح المرتبة 169، تليه ليبيا 160، ثم اليمن السعيد الذي يعيش حالة اللااستقرار لا يتأخر عن الركب ليحصد المركز 158، تليه سوريا التي يتعرض شعبها المكافح لحرب أهلية دامية لتحتل المرتبة 144، تليها جارتها لبنان بالرقم 122، ثم مصر 118، والجزائر 105، وتونس 90، والمغرب 88، ثم تأتي بعدها الدول العربية الأخرى.
هذا جعل الدول العربية تفوز بالنصيب الأكبر في حجم تكلفة الفساد على مستوى الاقتصاد الدولي، الذي قدره خبراء كثر بأنه يبلغ أكثر من 1.5 ترليون دولار سنوياً، نصيب العالم العربي منه أكثر من 300 مليار دولار سنوياً، وهذا المبلغ الفلكي نحو 30 في المئة من حجم الفساد على مستوى العالم بدوله الـ(193)، فالدول العربية (22 دولة)، وسكانها أكثر قليلاً من (300) مليون نسمة، أي ما يعادل سكان الولايات المتحدة، تنال نصيب الأسد في حجم الفساد في هذا العالم الذي يبلغ عدد سكانه أكثر من 6.5 مليار إنسان.
بيت القصيد: إن الدول العربية طبقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية Trensparency International،
التي بدأت منذ عام 1995 بإصدار مؤشر سنوي عن الفساد في العالم، في مقدمة دول العالم ترتيباً في الفساد، كما تصنف دول مثل نيوزيلاندا والسويد والنرويج والدنمارك في قائمة أفضل الدول خلوا من الفساد؛ وبذا فإن الفساد يترك أثره الخطير على الاقتصادات والتنمية والاقتصاد الوطني ومعدلات النمو والتنمية.
إن الفساد الإداري والمالي يمثل معضلة كبيرة في معظم الدول العربية، ويقف سداً منيعاً ضد الإصلاحات بكل أنواعها عندما تغلب مصلحة أفراد معدودين على مصالح الأوطان والمجتمعات. هذا بالرغم من أن الدول العربية بصفتها دولاً إسلامية يجب أن تكون من أكثر الدول نقاء وخلواً من الفساد؛ لأن ديننا يطهر النفوس من الظلم والجور والجشع والأنانية وهضم حقوق الآخرين، ويأمرنا بإقامة العدل والتحلي بالأمانة والصدق والإخلاص والعفة ومحاسبة النفس والرقابة الذاتية عليها، وهذا ما كان السلف الصالح يطبقونه لمعرفتهم بخطورة المال الحرام على الدين، فكانوا يصرون على أن يكون مطعمهم ومشربهم طيباً، وهو على عكس ما نراه اليوم في الدول العربية التي عم وانتشر فيها الفساد حتى أزكمت رائحته النتنة الأنوف.
المهم أن الفساد عدو لدود، يترك أثره السلبي عميقاً في الأداء الوظيفي والتطور والنماء والرفاهية، وهو بوجهه القبيح يرفع رأسه في معظم جهات الإدارة، ويمتد أثره على الاقتصاد كله بزيادة التكاليف المباشرة على المشاريع وتعطيل حركة الاستثمارات الوطنية والأجنبية، ويغيّر بشكل أساسي المعايير التي تحكم إبرام العقود التشغيلية برفع تكلفتها وتقليل جودتها والإخلال بمواعيد تسليمها، باختيار مقاولين أو موردين أقل كفاءة وخبرة، وتأمين سلع أقل جودة من أجل اغتصاب المال العام، ويتسبب في إجهاض كل عمل جاد وخلاق يخدم الدول والمواطنين.
وما التوفيق إلا من عند الله.
dreidaljhani@hotmail.comرئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية