في برنامج تلفزيوني حواري شهير يُبَثْ من إحدى الفضائيات العربية كان الحديث يدور حول الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تعصف بدولة عربية منذ عدة سنوات.. وكان مقدم البرنامج يستضيف شخصين يحملان جنسية البلد الذي يدور النقاش حول أوضاعه لكنهما ينتميان إلى تيارين سياسيين متنافرين إلى حد التناقض والعداء.
عندما بدأ النقاش، استهل الضيف الأول مداخلته بقصة أدبية باهتة وقصيدة، فبدأ المقدم العدواني للبرنامج يتململ، ثم قاطع ضيفه وانتقل إلى الضيف الثاني الذي انطلق هادراً يلقي من الذاكرة أرقاماً ومعلومات وتواريخ ووقائع محددة.. ورغم أن الضيف الثاني يقف مع حكومة لا تحظى بشعبية كافية ولا بإنجازات يلمسها المواطن والمراقب السياسي إلا أن طريقة الضيف في الكلام وترتيب أفكاره بدت مُقْنِعة.
بعد ذلك عاد المقدم إلى ضيفه الأول الذي أدار أسطوانة الشعر والأقوال المأثورة والشعارات الصاخبة من جديد.. لم يستطع المقدم الصبر، فانفجر في وجه ضيفه صائحاً: «يا أخي الرجل يعطيك أرقاماً وتواريخ وأنت ترد بالقصائد والأشعار! ما هذا يا أخي!».
لم يُعْهَدْ عن ذلك المذيع أي قدر من الموضوعية على امتداد السنوات الطويلة التي ظل خلالها يقدم برنامجه الحواري الشهير، ولم تكن ثورته في وجه ضيفه الأول بسبب حرصه على الموضوعية بقدر ما كانت بسبب حرصه على إنقاذ حلقة البرنامج التي قتلها ذلك الضيف ببلادته وبما ظل يلقيه في وجوه المشاهدين من محفوظاته الأدبية التي لا علاقة لها بالوضع الاقتصادي للبلد ولا بالحالة الأمنية أو الانسداد السياسي أو تهتك النسيج الاجتماعي لذلك البلد.
أظن أن المشاهدين نسوا، لحظتها، موضوع الحلقة بالكامل وأصبح موضوعها الحقيقي هو ولع بعض المثقفين العرب بالكلام المنمق والاستشهاد بالشعر والحكم والأمثال والأقوال المأثورة بدلاً من الوقائع والأرقام والحقائق والعرض المنطقي المتوازن.. فلو «عَصَرْنا» كلَّ ما قاله الضيف الأول لن نخرج بأي حصيلة مفيدة تقنع المشاهد برجاحة وجهة نظره بالرغم من أن واقع الحال في بلاده هو أكبر شاهد على تدهور الأوضاع في ذلك البلد، وأن الموقف الذي يدافع عنه هو الأقرب إلى الحقيقة والصواب.
هناك مشكلة كبيرة في طبيعة أسلوب الطرح والمناظرة لدى الكثير من المثقفين العرب، وقد يكون سبب ذلك أن المناهج التعليمية العربية مازالت ترتاب بشيء اسمه «المنطق»، ليس فقط في سياقه الفلسفي وإنما حتى كمنهجية نتعلم استخدامها وتوظيفها كأفراد وكجماعات في حواراتنا وفي حياتنا عموماً.
مازالت الأمثال والحِكَم والشعر والأقوال المأثورة تأتي في حياتنا العربية قبل الحقائق والأرقام حتى عندما نحلل أسعار النفط وأسواق المال ونظريات الفلك والفيزياء.. ولذلك نادراً ما تأخذنا تحليلاتنا الخيالية إلى نتائج منطقية، وهذا منطقي جداً فعندما تكون المقدمات خطأ لابد أن تأتي النتائج خطأ.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض