إبراهيم الربيش هو -كما عرف بنفسه- أحد أعضاء اللجنة الشرعية للقاعدة في اليمن، في أوائل العقد الرابع من عمره. تعلم في جامعة الإمام في القصيم ثم شد رحاله إلى أفغانستان ليجاهد، اعتقل ضمن من اعتقلوا أثناء حرب أمريكا على طالبان وقضى خمس سنوات في معتقل جوانتنامو ثم أفرج عنه، وعاد إلى المملكة وقضى سنة موقوفاً لدى لجنة المناصحة لإعادة تأهيله ثم أطلق سراحه فهرب إلى اليمن ليمارس ما بدأه في بلاد الأفغان مجاهداً بالمفهوم التقليدي للجهاد، ومصدراً للإرهاب إلى كل مكان، بما فيها طبعاً بلادنا تحت مسمى (الجهاد).. هذا الرجل استمعت إلى تسجيل له بُعيد أعمال الشغب في بريدة، يؤيدها طبعاً، ويشرح قناعاته تجاه الجهاد والسياسة وأمريكا والعالم بأسره، ولأن الحوار أس التفاعل بين المختلفين كما علمنا المولى عزَّ وجلَّ، فإنني هنا سأناقش (فكر هذا الرجل) لأنه في تقديري نموذج للقاعدي (المُنَظر) الذي يطرح رؤيته بوضوح.
هناك حقيقة تقول: إن مشكلة كثير من منظري القاعدة هو سوء (الفهم). ولا أعني بسوء الفهم هنا عدم القدرة على استيعاب الحالة، أو استحضار الدليل، أو تقدير مدى صحة الدليل، أو الحفظ، أو القياس بالطرق والمعايير الموروثة، وإنما في فهم أن الدنيا منذ أن خلقها الله وهي في حالة تغيّر وتبدل وتباين بين حقبة وأخرى، وليست ساكنة كما يتصورون، هذا التغيّر والتبدّل والتباين يجب أن تحيط به وتتصوره ويتسع له أفقك من أجل أن تفهم الحالة الراهنة فهماً موضوعياً؛ فمثلاً لا يمكن أن تقيس العالم اليوم ودوله وأسباب قوته بما كان عليه العالم قبل ألف سنة. فإذا استحضرت دليلاً من زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وتأكدت من صحته، فلا يعني أنْ يكون صالحاً بالضرورة المنطقية من الناحية الموضوعية لتطبيقه على الحياة اليوم، لسبب بسيط وموضوعي فحواه (عدم التماثل في الزمان والمكان والظروف)؛ أي أن مفهوم الدولة، ككيان، وكأفراد، وكعلاقات بين أفراد المجتمع، وكعلاقات بين الدول الأخرى، وكأنماط حياة، ليست في الماضي مثلما هي عليه اليوم؛ وهذا ما ينطبق - أيضاً- على عوامل القوة والضعف.. الجهاد بنوعيه، شُرِّعَ من حيث البدء إما لنشر الإسلام، أو للدفاع عن بيضة الدين، وجعل كلمة الله هي العليا. والسؤال: هل وسائل وأسباب القوة التي هي ركيزة الجهاد متوافرة لدى القاعديين مقارنة بما لدى الآخر من قوة؟.. أي طفل لو سألته هذا السؤال سيجيب بالنفي؛ وبالتالي يُصبح من يُمارس الجهاد اليوم هو تماماً كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة؛ فالقوة اليوم ليست فقط في السلاح حتى إذا افترضنا جدلاً أنك تملكه، أو الشجاعة أو تعداد الرجال المقاتلين فحسب، وإنما هي اليوم منظومة متكاملة ومترابطة ويشد بعضها بعضاً من القيم والعلاقات المادية والفلسفية تنتهي بأن تجعلك (قوياً أو ضعيفاً) أمام الآخر؛ عندما لا تهتم بها، أو لا تدركها، أو تتجاوزها، أو (لا تفهمها)، فأنت مهزوم حتماً حتى وإن استطعت أن تحقق في البداية انتصاراً؛ هذا الانتصار لن يلبث إلا وأن ينقلب عليك، لتجني الهزيمة المدمرة كما هي حال القاعدة عندما حققت انتصاراً عندما غزت أمريكا ودمرت البرجين، لكنها في النهاية أصبحت هدفاً مشروعاً لكل دول العالم، وأصبح تتبعها واغتيال أفرادها وتدمير مواقعها حقاً أممياً لا يرفضه أحد لجميع الدول غربية أو غير غربية؛ وهذا يعني أن انتصار 11-9 تحول إلى وبال جرَّ عليها من الكوارث ما هو كفيل باجتاثها طال الزمن أو قصر. فمن يعتقد أن القاعدة ستنتصر على العالم وقوته وإمكاناته في النهاية هو بلغة مباشرة رجل لا علاقة له بالمنطق بشكل عام فضلاً عن قانون السببية بشكل خاص؛ لأن الكون يُسيره الله جلَّ وعلا بالأسباب، وعندما لا تبالي بالأسباب، ولا تحفل بها، وتتعالى عليها، وتظن أن (الشجاعة) والإصرار والتحدي والمكابرة كفيلة بكسر (أسباب) الهزيمة وتحقيق النصر فسوف تسقط حتماً.
الربيش في خطابه واستشهاداته ورؤاه يتحدث بطرح لا يمت للموضوعية بصلة؛ طرح أقرب ما يكون لطرح الإنسان الحالم، الذي يرفض الواقع ويتعالى عليه، ويصر على أن الإيمان بالفكرة والشجاعة كفيلان بتحقيق النصر في نهاية المطاف. ويبدو أن قدرته على (فهم) الواقع، وفهم كيف يتغيّر هذا الواقع، وكيف يتحول، تكتنفه كثيراً من الضبابية التي تُغلفها الأيديولوجيا، ما جعله في النهاية يطرح هذا الخطاب المضطرب منطقياً، الذي إذا ما فحصته بمنظار الشرع أولاً والعقل ثانياً؛ سيضطرب حكماً.
أريد من إبراهيم الربيش فقط أن يعود إلى الإسلام في الفترة المكيّة، ثم يقرأ بتمعّن كيف تعامل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع معطيات الواقع حينها، ويسأل نفسه: هل سلَّ سيف الجهاد، وشحذ همم أصحابه، وتحدى الواقع، وكابر، وأصر على أنه سيقاتل بالسيف وسوف ينصره الله حتماً كما هم يفعلون، أم أنه نحّى الإيمان بالفكرة جانباً، ونحّى كذلك الشجاعة، وانصاع لمتطلبات الواقع وقوانين القوة والضعف (السببية)، وأصر على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والبحث عن أسباب القوة ليمتلكها قبل أن يبدأ بالجهاد القتالي؟.. إسلام الفترة المكية هو ما أدعو الربيش وأصحابه أن يقرؤوه قراءة متأنية، وعميقة ومتفحّصة، وأن يكون لهم برسول الله آنذاك أسوة حسنة؛ فلو فعل، لقُضي الأمر الذي نحن فيه مختلفون، وخلّص العباد من هذه الفتن، وخلّص دين الإسلام مما عَلِقَ به من ظواهر شوّهته وشوّهت نقاءه وغاياته الكبرى، وجعلته كأنه دين أتى بالدم والقتل كغاية، وليس لهداية البشرية كهدف وغاية كبرى.. فهل يقبل (فقط) بالتفكير فيما أقول بشيء ولو قليل من الموضوعية والعقلانية.. أرجو ذلك من كل قلبي.
إلى اللقاء.