* * بالرغم من الشُّقةِ التي فصلت ثلةً من المشايخ عن مماثليهم في قضايا فقهيةٍ خلافيةٍ كالرمي قبل الزوال ومجاوزة الميقات في الطائرة دون إحرام والفوائد البنكية وسفر المرأة من غير محرم ومصافحة النساء الأجنبيات والاختلاط ونحوها فقد بقي العلماءُ المختلفون في مواقع التقدير لبعضهم، وظلَّ للأعلام: محمد بن إبراهيم وعبدالله بن محمود ومصطفى الزرقا ومحمود شلتوت-رحمهم الله- ويوسف القرضاوي- حفظه الله- وسواهم مكانُهم ومكانتهم، وبالرغم من احتدام النقاش بينهم فلم يبغِ واحدُهم على الآخر وبقيت تآليفُهم وسيطَ تآلفِهم وردودُهم” القاسيةُ” شاهدةً على عزم مواقفهم؛ فانحصر التباينُ في أدنى درجاته.
* * وحين بلغ الشيخَ عبدالعزيز بن باز-غفر الله له- بعضُ آراء الدكتور حسن الترابي التي تيقن أنها شاذةً كتعريفه للردة وتعزير شارب الخمر لا حّدّه وعدم رجم الزاني وإباحة زواج المسلمة من الكتابي وما في حكمها راسله طالبًا منه الإفادةَ عن دقة ذلك وأدلتَه عليها كي يتمكن من مناقشته فيها؛ مستهلًا كتابه بـ”حضرة الأخ الكريم الدكتور حسن الترابي وفقه الله لما فيه رضاه”.
* * وفي أيامٍ عتيقةٍ دار حوارٌ شعبيٌ حول التلفزيون بين من يظنون حرمته ومن يرون حِلَّه، وجاءت الفتوى المنطقيةُ في أنه أداةٌ لا يقع عليها الحكمُ مباشرةً بل على ما يُبثُّ فيها، وخفَتَ الجدلُ متواريُا في سلوكٍ شخصيٍ لمن يفرضُه ومن يرفضُه، ونأى المجتمع بحكمة الفتوى من الافتراق، ولم يكن حينها أكثر وعيًا لكنه كان أقلَّ توترًا، ربما لأن المتشابكاتِ الحياتيةَ غيرُ معقدة ووسائط التواصل أكثر يسرًا.
* * واليوم بتنا نعتمر السلوك الإقصائي بصورةٍ مقلقةٍ تتزايدُ مع حالة التبرم من كل شيءٍ يقودها النجوم المعرفيون والمؤدلجون والشعبويون الذين لم تعد المساحاتُ الرقميةُ قادرةً على الفصل بين ذراهم وسفوحِهم، وصار معظمهم يتوسلون رضا أشياعهم عبر تمثُّل صورةِ المصلح النزيه الناقد الناقم الذي يرى الناس إلا إياه فاسدين ولا يُهمه عواقب استثارة المشاعر وتأليب الشارع في سبيل مزيد من الأكف المصفقة، ولو كُشف المخبوءُ حولهم لتبرأ الذين اتَّبعوا من الذين اتُّبعوا.
* * ربما غيَّبت التقنيةُ الحكمةَ ووارى سقوطُ النخبِ الحكماءَ، وهو ما آذن بمظاهرِ فوضى مجتمعيةٍ يأزرُها ضيقُ النفوس وتردي الدروس وتزايد الافتئات وغلبةُ الفتات مصحوبةً بتردي اللغة وهبوط الأساليب وتحفيز العداء وتكريس الاستعلاء وغياب الأرضية الخصبة الملائمة للحوار الهادئ.
* * لماذا تغيرنا؟ ومن يستفيد من بعث الكُرهِ بين المتناظرين؟ ولِم لَم يسعنا ما وسع مَن قبلنا؟ لعله تبدلُ المعطيات الفكرية والوسائط الموصلة والغياب الاختياري والقسري للنماذج الصادقة الممتلئة التي تترفع عن السفه والإسفاف، وهو ما يعني مسؤولية النخب الأصيلة عن استعادة حضورها الفاعل المؤثر، وقلب الصورة السائدة عن معظمها في تملق الجماهير والسير مع الريح.
* * الجو المحتقن لا يصنع تنمية ولا يبشر بغد، والمأزومون بالتأجيج سينسحبون في الاختبار الأول مخْلين الميدان لمن امتلأت رؤوسهم بالشعارات والافتراءات لينفرد بهم الخطُّ الأمامي وما كانوا وجاهيّي الرؤى ولن يكونوا مواجهي المواقف فضلُّوا وربما أضلوا.
* * العامةُ لا تقود.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon