يتداول الناس القول المشهور التالي: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)، اختلفت الأفهام في قراءة هذه المقولة وتفسير دلالاتها، فالغارق في حب الدنيا، المؤثرها على كل شيء، المتهافت عليها، وعلى ملاحقة مغرياتها، وسبل جمع المال فيها، والباحث عن كل جديد وكل فرصة، لا يمكن أن يتوقف أو يتريث، بل لا يألو جهداً في السعي الدؤوب، يبحث ينقب وبشغف وشراهة عن المال، بل يركض لاهثاً وراءه من فرصة لأخرى، لا يتوقف أبداً، ولا يقبل التأجيل أو التأخير، بل قد يغضب على قريب أو صديق، ويلوم نفسه ويؤنبها، ويتحسّر ويتألم عندما تفوته فرصة هنا أو هناك، يقطع الأميال تلو الأميال، يسهر ويواصل الليل مع النهار كي يحظى بالمزيد والمزيد، غير مكتف وغير راض بما عنده، أشعث أغبر، تصدق عليه مقولة: (الدنيا سابهته)، أي مضيعة عقله ووقته، تقوم معه أينما ذهب، فهو مسبوه دائماً، حاضر غائب، مثل هذا الإنسان ليس لطموحاته حدود، فهو ماد حبال طوال من الأمل، وكأنه سوف يعيش أبد الدهر.
بينما يتثاقل هذا المسبوه المبتلى بحب الدنيا عن أداء العبادات والطاعات التي أمر الله بها، يسوّف ويسوّف حتى في العبادات الموقوتة بوقت محدد مثل الصلاة، يؤجّل أداءها بتعزية نفسه بأن في الوقت متسع، ومعليش بعد شوي، وبعد انقضاء وقت الصلاة يؤديها مستعجلاً، ويا ليته يؤديها بتمام أركانها وواجباتها وسننها، بل يسرق منها الكثير مما يعد أصلاً في صحتها وتمام أدائها، يؤديها بعقل سارح، وذهن مشغول، وقلب لاهث، ووجدان منكسر، لم يستحضر قط أنه يقف بين يدي الله الذي قد قدَّر الأرزاق، فالرزق الذي يلهث في تتبع فرصه، مكتوب مقدَّر، لن يحصل على أكثر منه مهما جد واجتهد، وسعى وبذل، ولا أقل منه مهما تقاعس أو تكاسل، أو تأخّر أو قصّر، متناسياً ما يتطلبه هذا الوقوف - الذي أجّله وتباطأ فيه - من خشوع وتذلّل ودعاء ورجاء، واستحضار قلب ووجدان.
في المقابل هناك من ينظر للدنيا نظرة متوازنة، ينظر لها باعتبار أن كل إنسان مطالب بإعمارها، واستثمار مقدراتها، وأنه في هذه الدنيا مجرد عابر سبيل، وأن الطامع في الدنيا لا يمكن أن يشبع أبداً، فهو كالشارب من البحر لا يمكن أن يروي ظمأه، هكذا الساعي في جمع المال، مهما كان فيها مقتصداً أم ظالماً لنفسه، فإنه لن يرضي الجشع الكامن داخل نفسه، لهذا يغلب المتوازن القانع عقله في التعامل مع فرص الحياة، حيث يضع حداً بين حقوق الدنيا، وواجبات الآخرة، لهذا تجده ينظر لجمع المال في الدنيا بأنه لن يفوت، لأنه مقدَّر مسبقاً، وبالتالي الذي لا يخلص اليوم يخلص غداً، الأيام طوال، لا داعي لإتعاب النفس وإرهاقها بمواصلة الجهد، فهذا الصنف من البشر يتسم بالرضا والقناعة والموازنة بين متطلبات الدنيا والآخرة، لا يطغى أي منهما على الآخر، يؤدي حقوق كل منهما في حينه، يعمل في الدنيا وهو يرى أن في الوقت متسع، بينما يعمل للآخرة وكأنه يموت غداً، تصوروا مقدار الجهد والإخلاص والاجتهاد في العمل الأخروي لو علم أحدنا أنه سوف يموت غداً، وتصورا درجة الرضا والاطمئنان لذاك الذي ينظر للأعمال الدنيوية بأنه يمكن التعامل معها حسب المستطاع والممكن دون إجهاد أو إيثار.
يروى أن أحدهم كان على فراش الموت، وكان يردد، يا ليتها كانت كثيرة، يا ليتها كانت جديدة، يا ليتها كانت كاملة، سأله أبناؤه عن هذه التمنيات، فأجابهم: كان لي جار أعمى آخذه يومياً إلى المسجد، وعندما تبيّن لي ثواب تلك الخطوات تمنيت لو أنها كثيرة، وعن الثانية قال: كان لدي خفان، أحدهما قديم والآخر جديد، تبرعت بالقديم، ولما تبيّن لي ثواب هذا العمل تمنيت لو أنني تبرعت بالجديد، وعن الثالثة قال: كنت أتصدق كل يوم بنصف رغيف، فلما تبيّن لي ثواب هذا العمل تمنيت لو أن الرغيف كان كاملاً.
هل يعتبر المقصِّر في أعمال الآخرة طالما أن في العمر متسع؟
assahm@maktoob.com