التأثير الحضاري أمر عرفته الإنسانية خلال عصورها المختلفة فالتفاعل الحضاري وتأثر بعضها ببعض أمر طبيعي وحتمي، فإذا كان هذا قد حدث دائما في الماضي فلا جدوى من محاولة منعه في الحاضر مع هذا لا بد أن نميز بين الغزو والخضوع من حضارة لأخرى وبين مجرد التأثير..
وأن ننسب ما يحدث الآن للحضارة والثقافة العربية الإسلامية إلى الغزو.
فالشاهد الذي لا يمكن إنكاره أن العرب والمسلمين يتنازلون يوما بعد يوم وتحت التأثير (انفتاحهم) الذي لا ضابط له على المجتمعات الغربية وحضاراتهم من خلال اقتباس كثير من عاداتهم وقيمهم ومميزاتهم الخاصة تحت الضغط المادي والقهر النفسي وحدهما دون أن يكون لهذا مبرر وهذا يرجع إلى أن القيم والعادات الحديثة أكثر مناسبة لظروف حياتهم أو إلى الاقتناع الحر بأن هذه العادات تمثل مرحلة أعلى من مراحل التطور. فلننظر إلى ما يحدث من تضحيتنا بأسلوبنا الخاص في المعمار والمأكل والملبس دون أي مبرر لذلك أو تحت التأثير الأعمى حتى لغتنا ومحاولة تطعيم اللغة بمصطلحات أجنبية تحت شعار المعاصرة والتقدم لذا فإن اللغة العربية تعاني من إهمال وعبث بقواعدها نتيجة لنقدنا للغتنا بأنفسنا إلى حد أن أصبح من دواعي الفخر لبعض شبابنا إعلان ضعف معرفتهم بقواعدها، بالإضافة لذلك هناك سباق محموم بين الأسر بإلحاق أبنائهم بالمدارس الأجنبية التي تشمل كل مراحل التعليم بدءا من التعليم الابتدائي وانتهاء بالتعليم الجامعي وداخل هذه المؤسسة التعليمية الأجنبية.
تلقن لهذه الناشئة ثقافة غربية وبالتالي ينفصل هؤلاء الناشئة والزهور عن عالمهم ووطنهم كما أنه يشكل خطرا على توجهاتهم قد لا ينتبه إليها أحد، وكثيرون من الأسر يعدون تعليم أبنائهم في هذه المدارس من علامات الرقي والتفوق ولكن داخل العسل يكمن السم خلف الأسوار الجميلة والملاعب وفي حجرات الدرس بالمدارس الأجنبية لكن قد يذهب بنا من يعتقد أن الاتصال بالحضارة الغربية سوف ينقلنا إلى التطور والتقدم والدليل على ذلك أن ازدهار الحضارة الإسلامية كان سببه اتصالها بالثقافات الأخرى من خلال الترجمة في الفلسفة والعلوم والآداب عن الحضارات الأخرى كما يعتقدون.
ولا نشك أن هذا لا يعني الانغلاق بل اقترن انفتاح الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات من جهة لترجمة الأعمال للفلسفة اليونانية كان الباعث الأساسي إليه والذي يعني تدعيم العقيدة الإسلامية وليس إضعافها وذلك بالرد على حجج وآراء تتعارض مع الإسلام أو تختلف منه. وكانت الترجمة تقترن أو لا تلبث أن يضاف إليها من الشرح والرد ما ينتهي بإغناء العقيدة والفكر الإسلامي لا إفقاره وكل هذا مرده إلى أن المترجم كان ينظر إلى الحضارة التي يترجم عنها نظرة الواثق من تفوقه عليها، فأين هذا من موقف المترجم العربي المعاصر؟، الذي لا يميز بين الغث والسمين والذي يعاني من عامل النقص عن أي محاولة للرد على الخصوم والذي يلجأ في أحسن الأحوال إلى اتخاذ موقف المعتذر محاولا بيان أن لديه مثل ما لدى الغرب وأن العرب ليس أقل تقدميه من غيرهم الخ دون أن يخطر ببال الناقل سواء إن كان مترجماً أو مؤلفاً ثم إنه من الممكن أن يكون لدى العرب والمسلمين من مقومات الإبداع ما يسمح لهم بتقديم مساهمة جديدة تماماً لا يمكن تصنيفها تحت أي مذهب من هذه المذاهب. فإذا لم يكن هذا الذي نحن فيه خضوعا لغزو ثقافي حضاري يتعين صده أو مواجهته والتعامل معه ولكن العيب ليس في الاتصال بحضارة الغرب والانفتاح الكامل عليها وإنما الموقف النفسي العربي الذي يجعله يقلد حيث يجب الإبداع وينهار حيث يحب أن يصمد وهنا يطرح السؤال كيف يمكن أن نحمى العربي المحاصر من مزيد من الانهيار النفسي والانقياد لحضارة طاغية إلا بنوع من أنواع الانغلاق؟ وكيف يمكن أن يتخلص العربي من عقدة الخواجة؟ في الوقت الذي تنهال عليه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في كل ساعة من ساعات النهار ملقنة إياه مفاتن السلع الغربية وإن السبيل الوحيد للحياة الهانئة هي في تقليد النمط الغربي للحياة.
بالإضافة إلى ذلك، إن مفهوم التنمية والتقدم الذي يطرح علينا صباحا ومساء لا يخرج عن أن يكون تكرارا للمفهوم الغربي للتقدم، فالدعوة إلى الانفتاح قد تكون مفهومة ومرغوبة في ظروف مجتمع لم يفقد ثقته بنفسه ولم يفقد قدرته على الإبداع وعندما ينجح بالفعل في إرساء أسس تقدمه الاقتصادي المستقل في مثل هذه الظروف يمكن لهذا المجتمع الاحتكاك بحضارات قوية ساعية لمزيد من التقدم. أما إذا كان المجتمع يمر بفترة شبيهة بتلك التي يمر بها المجتمع العربي اليوم من اعتلال الصحة وفقدان الثقة فلا علاج له إلا الإغلاق للكثير من النوافذ والأبواب. لكن في هذه الحالة كيف نصد الهجوم الحضاري المعاصر الذي تهب رياحه في كل اتجاه وتتسرب ذرات ترابه من خلال أكثر النوافذ والأبواب. فهجوم الحضارة الغربية علينا هو هجوم ضار لا هوادة فيه. لا بد من صده من خلال حفظ قيمنا وبنظرة فوقية وبثقة بالنفس نحو هذه الحضارة وليس بنظرة دونية دون ثقة بالنفس ونشعر أنفسنا والعالم من حولنا إننا لسنا سلالة حضارة ضعيفة وموغلة في القدم ولا تملك ما يمكن أن تنافس به الفكر الغربي وإنها لم تنجح في يوم من الأيام في إبراز حضارة زاهرة أو أن ما أنتجته حضارتنا قد بعد به العهد إلى الحد الذي لا تجد فيه الأمة إجابة على ما تثيره أهم معضلات العصر الحديث من أسئلة فهذه حرب نفسية يثيرها الغرب نحو حضارتنا لقتل الهمة فينا لكن العرب والأمة الإسلامية ليست بهذه ولا تلك فانهيار العرب والأمة الإسلامية أمام حضارة الغرب يرجع إلى حوالي ثلاثمائة عام ومع هذا ما زال العرب والمسلمون على استعداد لاستعادة ثقتهم بأنفسهم من خلال عودة بعض الأمل إليهم في تغيير ظروفهم إلى الأفضل ولعل هذا هو تفسير التخوف والشك المستمرين لدى السياسي ورجال الأعمال الغربي إذا ما جاء دور التعامل مع العرب والمسلمين وتفسير وصف الغربيين لنا بأننا لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يصنعه في الغد. لذا فإن الخطر من الغزو الحضاري الغربي هو الاستسلام له والهزيمة النفسية أمام هذا الغزو. لذا فإن أهم سلاح لحماية استقلالنا الاقتصادي والفكري يجب أن يكون في الأساس سلاحا ثقافيا لأن المشكلة هي مشكلة ثقافية؛ فمثلا مشكلة وجود إسرائيل على جزء من الأرض العربية وبسط نفوذها هي مشكلة حضارية ثقافية فلا الاقتصاديون ولا السياسيون ولا العسكريون قادرون وحدهم على تقديم الحجة الفاصلة ضد وجود إسرائيل كجزء مقتطع من الوطن العربي وليس الخر الأساس هو خطر غزو المنتجات أو رؤوس الأموال الإسرائيلية لاقتصاديتنا ولا هو احتلال جزء من الأرض العربية قصرا دون حق بل الخطر الأساسي هو حضاري بالدرجة الأولى؛ إذ يمثل الاستسلام لاسرائيل استسلاما في مواجهة ثقافة وحضارة غازية ليست إلا امتدادا لثقافة وحضارة الغرب ومع هذا هل يجب علينا صد كل الحضارة الغربية أو يجب التفاعل بالجوانب الإنسانية العامة مع الحضارة الغربية والتي تمثل التقدم الإنساني وهي الجوانب التي لا تزيد عن أن تكون مجرد تعبير عن ثقافة خاصة هي ثقافة المجتمع الأوربي والأمريكي وأغلب الظن أن كثيرا مما نعتقد أنه من مظاهر التقدم الإنساني في الحضارة الغربية ليس أكثر من تطبيقات خاصة أفرزتها ثقافة بعينها هي ثقافة المجتمع الأوروبي والأمريكي فليس لها صفة العمومية والصلاحية الشاملة في كل زمان ومكان مثل اختراع الطائرة والسيارة والتي تظهر لنا أنها من مظاهر التقدم الإنساني بوجه عام فيه تستند حقا إلى تقدم علمي وهذا يعتبر كسبا إنسانيا خاصا لكن السؤال الذي يجب طرحه إلى أي مدى كان تطبيق التقدم العلمي أو التقني؟ أن التطبيق الخاص الذي أسفر عن اختراع الطائرة أو السيارة متأثرة بقيم المجتمع الأوربي وتطلعاته وأهدافه المميزة عن تطلعات غيره من المجتمع.
أو بعبارة أخرى إلى أي مدى كان من الممكن أو من المستحيل لمجتمع آخر ذي ثقافة مغايرة أن يحقق نفس التقدم العلمي أو التقني دون أن يؤدي به إلى اختراع الطائرة أو السيارة بل إلى اختراعات أخرى قد تكون أكثر جدوى في نظره فإذا كان هذا ممكنا، فما هو إذن وجه الضرورة في أن يؤدي قبولنا لما هو إنساني في الحضارة الغربية إلى تبني ما هو خاص بها أو مميز؟
إن هذا التميز هو الجدير بأن يدلنا على المعيار الواجب الاتباع فيما ننفتح عليه أو نصد الأبواب دونه فنحن لا نغلق الباب أمام إنتاج العقل الإنساني وتقدمه سواء أكان مبدعا غربيا أو شرقيا ولكن نصد الأبواب أمام منتجات من يريد البائع الغربي أو الشرقي بيعها لنا على أنها ثمرات التقدم الإنساني وهي ليست أكثر من إفرازات طموحه الخاصة والتي انتقلت إلى أجيالنا وأحفادنا في هذه الحالة كيف لنا صد هذه الحضارة الغازية ؟ أو كيف يكون تعاملنا معها عندئذ يتبادر إلى أذهاننا ماذا علينا أن نضع في ميدان التعليم؟ فإذا كان جيلنا قد أصيب بهذا المرض العضال وهو التخاذل النفسي فلعلنا نستطيع أن نفعل شيئا لإنقاذ أبنائنا أو أحفادنا من نفس المرض وحتى بعض المفكرين المتأثرين والداعين للفكر الغربي وينقلون عن الغرب تقدمه وتطوره الفكري دون تردد وما أطلق الغرب علينا من أوصاف أملتها عليه نظرته المتعصبة والضعيفة فنحن بلاد متأخرة حينا ومتخلفة حينا على حسب ما يراه الكاتب الغربي في وقت من الأوقات من دواعي اللياقة والأدب والإبداع ويدعو هو إلى اللحاق بمستوى المعيشة في الولايات المتحدة وهو ما يراه الكاتب في الولايات المتحدة مناسبا ويتهمنا بالقدرية (المقصود هو الإيمان بالله وحده) وبإذلال المرأة (أي التمسك بعفة المرأة وبقوة الروابط العائلية) على زعم أن التنمية إلى اللحاق بمستوى شعوب أوروبا وأمريكا يتطلب عكس ذلك.
فهل من الصعب حقا على القائمين بأمر التعليم والتربية فينا أن يعيدوا النظر في مناهجنا نحو ما يسمح لنا باستعادة ذاكرتنا حتى يجنب مجتمعنا وأبناؤنا فقدان الثقة بأنفسهم وثقافتهم؟.
Twhad-alfozan@yahoo.comجامعة المجمعة - كلية التربية - m.alfozan@mu.edu