كلما مررت على أهل القبور وألقيت عليهم تحية الإسلام ذات الدلالات العميقة والحية في النفوس الكسلا المستكينة.. كلما مددت بصري أتفرس في جنبات القبر الذي سيضمني يوماً ما.. كلما حاولت أن أسبر أغوار الأرض لأفتش عن مكنونات هذا الجسد وهو تحت الثرى بلا فراش أو غطاء.. كلما مرت جنازة أو سمعت عن حادثة موت أو شاهدت قوافل الراحلين عن دنيا الناس.. كلما سردت أمي حكايات النهايات الحزينة التي ذاقت مرارتها يوماً ما.. كلما قرأت في وجوه من أقابلهم في شارع الحياة قلق الموت وخوف الرحيل.. كلما جلست مع نفسي أحاول أن أفهم ذاتي وأن أحلل شخصي وأن أجمع شتاتي وأن ألمم شعثي قبل أن تحين ساعة الفراق.. وكلما مر على لساني هذا الدعاء.. كلما.. كلما... انتابني شعور الساجدين،، وخوف المستغفرين،، ووجل المخبتين،، وقررت لحظتها الالتزام بسير المتقين.. ولكن سرعان ما تتغير بوصلة حياتي،، وتتبدل المواقع عندي،، وتختلف الأولويات في حسي،، ويلاعبني ويلعب بي طول الأمل،، ويساورني ويأسرني بٌعد الأجل وللأسف الشديد!!.
إن لصمت القبر لغة.. ولتشييع الجنازة معنى.. ولقوافل الراحلين ألف حكاية وحكاية.. عرفها وتأمل في مدلولاتها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ولذا قرأوا الدنيا قراءة تختلف عن قراءتنا نحن لها،، ولا أدري كم هي المسافة التي تفصلنا عنهم إلا أن صمتهم وهم تحت الأرض يقول لي إننا جزماً سنلتزم الصمت يوماً ما وسنعرف حينها كيف كان يجب علينا أن نتعامل مع تلك الفرصة الثمينة التي كانت بين أيدينا ولكننا أضعناها!!.
هل وقفت يوماً ما على جزيرة الأطفال في المقبرة،، إنها جزيرة عجيبة جدا تحكي لك قصة القدر بكل غرائبه وبأدق تفاصيله.. هل سمعت عن شباب فارقوا عالمنا الأرضي فجأة ودون مقدمات وكانوا لحظتها ينتظرون قادم الأيام بعقلية الوفرة لا الندرة،، ويتطلعون إلى غد أجمل في هذه الدنيا.. هل تعرف كم هم الأثرياء والوجهاء بل وحتى الرؤساء والحكام والأقرباء الذين كان يتنافس الناس على شرف التصوير معهم والتشرف بالسلام عليهم يمرون بهم اليوم وهم في مقابرهم حتى السلام لا يلقونه بين أيديهم !!
لا.. ليس هذا فحسب بل يمر الرجل على قبر أبيه الذي ما زال ينعم بما ورثّه له بعد موته ولا يلتفت إليه وكأنه لم يكن يوماً ما في عداد الأقوياء المجانين في لهثهم وراء الثراء !!.
هذه هي الحكاية.. وتلك هي النهايات ولذا تبقى التساؤلات تحوك في النفس وتجبرني على بوح الخاطر هنا،، لا لشيء إلا لأننا كلنا ذلك الإنسان الذي يعلم عن أن وراء صمت المقابر ضجيج،، وتحت الأرض أسرار،، وسيكون هو عن قريب رقم جديد في هذا العالم العجيب،، ولكن الهمم تتباين،، والران يزيد وينقص كما هو الإيمان في قلب ابن آدم !!.
قف على المقابر وقفة تفكر،، وعش مع تلك الجموع لحظة تأمل وتدبر وستجد أن كثيراً من أوراقك وأرقامك ومشاريعك تتساقط كقطرات ماء بقي على جسدك بعد أن اغتسلت بالصافي الزلال.. حاول أن تضع لحظتها نقطة وتبدأ من أول السطر.. هنا أذكرك ونفسي بأن الصامتين سئلوا أول دخولهم عالمهم الجديد عن ثلاث (الرب.. والدين.. والنبي) وستسأل أنت كما سئلوا.. ليس هذا فقط بل ستسأل عن أربع (العمر،، والمال كسباً وإنفاقاً،، والجسد،، والعلم) وسيبقى لك ثلاث (الصدقة الجارية،، والعلم الذي ينتفع به،، والوالد الصالح الذي يدعو لك).
آه.. كم هو جميل أن يلتحق الإنسان بنادي الصامتين هذا وقد امتلك الزاد وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ..
صدقوني ليس هذا حديث عن الآخرة فحسب بل حديث لعمارة الدنيا،، وتنمية الأرض،، وبناء حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين إذ متى استشعر ابن آدم هذا المشهد وعاش لهذه المرحلة التي جزماً سيمر بها فلن يظلم ويسفك ويحسد ويسرق ويفسد ويكذب و... وبهذا تتحقق النزاهة ويرتفع صوت الأمانة وتحمى الديار وتحفظ الأعراض ويسود الأمن والأمان وتموت الفتن في مهدها ولذا كان من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)،، ومتى تذكر إنسان الدنيا عالم المستقبل فسيكون للعقل أقرب وللشرع ألزم وللحق أتبع،، عندها فلن نحتاج إلى كل هذه الطوابير من المراقبين وستتفرق صفوف الناقدين وستذهب جموع المحاسبين فالضمير حي،، واستشعار مراقبته الله موجود في النفوس المسلمة المستسلمة..
هذا هو الإسلام لمن يريد أن يعيد قراءة سيرته على ضوء ديانته !!،، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.