يظنّ كثير من الناس ومن بينهم (أطباء!) للأسف أنه عندما يقول شخص ما إنه مكتئب! فهو يتحدث عن حالة عابرة مثل لو أنه قال إنني مصاب بالزكام! والحقيقة أن مجتمعنا كونه حديث عهد بالتنمية ومعظم سكانه لا زالوا يعيشون فكر الصحراء الجاف وأيضاً فهو يعيش حالة إيجابية في مسألة الصحة النفسية وهي ما يقابل بها بسخرية ما يتردد عبر وسائل الإعلام عن اكتشاف دواء أو علاقة بين مرض ما
وما يأكله الإنسان، فهو مجتمع (مؤمن) بطبيعته، ولعل هذا ما يعطيه قوة وصلابة في مواجهة المصاعب التي لا تخلو منها الحياة.
لكننا اليوم نعرف أن (الاكتئاب) مرض حقيقي وليس وصفا لحالة مزاجية. ولذا فإن علينا تقديم فكرة عن الاكتئاب لعلها تسهم في أن تثير شهية القارئ إلى التوسع في قراءة المزيد من الكتب التي تتعلق بالصحة النفسية ، لأن المعرفة هي أساس مهم ليشعر الإنسان بأنه يعيش وسط عالم يمكنه فهمه، وليس لغزا يحتار في حله.
وأظنّ أنه ينبغي أن يُعطى أفراد المجتمع جرعات عالية من التفهم لجميع مستجدات الزمن، خاصة وهو زمن متسارع ويسير بلا هوادة نحو التغيّر وهذا هو القول الحقّ الذي قاله تعالى. وبدون معرفة يصبح الإنسان ضحية للجهل الذي يزداد معه حال التيه الذي يسيطر على الإنسان وعلى سلوكه وعلى أسلوبه في التصدي لمشكلاته. وكثيراً ما نشاهد حالات يكون فيها واحد من أفراد أسرة سبباً لمتاعب أسرته بسبب أن هذه الأسرة تجهل الخطوط العريضة للصحة النفسية وسبيل معالجة المريض.
إن السلبية المستسلمة هي ميزة الاكتئاب. ولو أردنا أن نضع مانشيتا يعبّر عن حالة المكتئبين لكانت (كل حياتي رديئة، وإنني مجرد مشكلة ميئوس منها، وليس هنالك ما يمكنني فعله تجاه ذلك)!. وإن الوجود في مثل هذه الورطة يخمّد الحماس للشخص المكتئب ويثبّط من شهيته للحياة ويحيله إلى ظل من الاضطراب الوظيفي لنفسه المعتادة. تهجم عليه الأفكار والدوافع الانتحارية، قد تهاجمه مع الوعد بالعفو العام!. أو الانتقام من العالم غير المبالي. وفي حالة الاكتئاب شديد الحدة نغدو مستفزين للغاية من كل المشاعر الإيجابية. خامدين للغاية وفاقدين لبشريتنا (لدرجة أننا نؤمن بأننا فقدنا روحنا نفسها).
وحتى وقت قريب جدا كانت الحكمة المألوفة هي - إن الاكتئاب هو مجرد ردّ فعل مبالغ فيه. لكننا اليوم لا نرجع إلى مثل هذه الحكمة بل نعرف أن الاكتئاب هو مجرد اختلال توازن كيميائي وهو مرض مثل ما يكون السكر بسبب عجز البنكرياس. ولا أظن أن هناك كائنا واحدا خاليا من المشكلات لأكثر من ساعة أو ساعات طويلة ولكن هذه هي مشكلتنا وهي أننا نحصي مشكلاتنا ونرسمها على السبورة الخاصة ونحاول تبريرها أو نتساءل هل هي مشكلات تواجه الجميع؟! أم أنها خاصة بنا؟!.
إنني لا أتحدث كعالم أو محلل نفسي ولكن الإنسان ينبغي أن يكون مدركا للمادة الموضوعية التي تتكون منها حياتنا. إننا حين نحدّق جيداً في موضوعاتنا الشخصية نجد أنها كبيرة. ونشعر - عادة - بالعجز عن حفر ولو كوّة صغيرة نطلّ منها على روحنا، الروح هي هذا المزيج من الأسئلة والحوار مع الذات ومع الآخرين، شرط أن يكون حوارا موضوعيا ننسى فيه لزمن قصير أفكارنا المسبقة ورؤيتنا التي ربّينا عليها ولكل إنسان رؤية قد يكون رتّبها منذ ان كان صغيرا وكبرت بفعل التجارب المتراكمة. وعلينا بقبول الاختلاف. فأن نختلف لا يعني مطلقا أن (نفترق)! بل بالعكس نحن كلما افترقنا أسسنا لفراق آخر. وأسوأ ما في هذه الحياة هو: الفراق!.
وهذه مناسبة لأتذكر الروائي الكوبي الكبير (إدموندو ديزنوس) وروايته العظيمة (ذكريات التخلف) فهو كتبها نوعا متجددا للسيرة، وكان مناضلا من أجل كوبا وكان رفيقا لزعيمها الحالي (كاسترو) واختلف مع رفاقه حين انتصرت الثورة، وفي الرواية هو فقط يحكي يومياته ويتذكر خيباته ويحاول تبرير عجزه عن اللقاء مع رفاقه السابقين. واكتفى بمعاش من الضمان الاجتماعي قرّره له كاسترو وكان في كل الرواية يتصور أشكالا من الكاريكتورات التي تفضي إلى الضحك ومن ثّم التأمل. مثل إحساسه غير القابل للنقاش بأن خادمته (تتجسس) عليه وأن سائقه يتجسس على الخادمة (هل تتجسس جيداً أم لا؟). إن كثيرا من أفراد مجتمعنا يصابون بنوبات من الاكتئاب ولا يعالجون منها بسبب النظرة الاجتماعية إلى من يعالج لدى أطباء بسبب حالة نفسية ويذهبون في تبرير ذلك مذاهب شتى. فمنهم من يؤمن بأن العلم لا يمكنه علاج الروح والنفس. وعندما تقول له إن هنالك أسماء كبيرة سجلها التاريخ لعلماء النفس والمعالجين النفسيين وجد مخرجا له بالقول إنه يتحدث عن خصوصية اجتماعية وإنك لن تفهمها بسبب مقارنتك بين الغرب والشرق، وهذه مشكلة تخص أفرادا من المجتمع معدودين بدليل وجود أطباء نفسيين سعوديين على مستوى عال ٍ من الكفاءة والمهنية. وبدليل تعدد اختيارات المعرفة التي يمكن أن يلخصها ذلك الجهاز الصغير (الكمبيوتر) في سطور أو صفحات إن كنت تفضل إضفاء طابع شخصي على نفسك وأسلوبك!
نحن إذن إزاء معضلة اجتماعية يمكننا تسميتها بالإنكار. فالفرد يسير بالاتجاه الذي يسير عليه المجموع بغضّ النظر أكان دربهم يؤدي إلى الوجهة التي تمثل طموحهم ورغبتهم أم إلى وجهة أخرى لا تزيدهم إلا حيرة على حيرتهم بل ربما أدّت إلى أن يتخذوا قرارات عكسية. ليست في صالحهم ولا في صالح المجتمع الذي ينتمون إليه.
alhomaidjarallah@gmail.comحائل