هناك ما يوقع المتأمل لنظامنا الصحي في شيء من الحيرة. وعندما أذكر النظام الصحي فلست أعني الخدمات الصحية كما تقدمها وزارة الصحة والقطاعات العسكرية والجامعية والقطاع الخاص كل على حدة، بل أعنيها مجتمعة من منظور
المستفيدين منها- وعلى الأخص المواطنين. ضمن النظام الصحي يقدم سائر القطاع الحكومي ما يلي (حسب الكتاب الإحصائي لوزارة الصحة لعام 1432هـ):
- (290) مستشفى مجموع أسرتها (45400) سرير، مع تفاوت بين المناطق في معدل الأسرة لكل ألف من السكان.
- ما يقارب (2500) مركز صحي حكومي منها (2100) تابعة لوزارة الصحة.
وجميع هذه المرافق الصحية تقدم خدمات التشخيص والعلاج مجاناً بدون مقابل.
ويقدم القطاع الخاص خدماته من خلال (130) مستشفى مجموع أسرتها (13300) سرير، و(2185) مجمعاً ومستوصفا وعيادة - وأكثر من نصف هذه المرافق يوجد في منطقتي الرياض وجدة. وجميع خدمات التشخيص والعلاج في هذه المرافق تقدم بأجر يدفعه المريض إما من جيبه الخاص، أو من خلال التأمين الخاص أو الإلزامي.
وهناك أيضا (حسب بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية) قطاع أهلي خيري يتمثل في (35) جمعية خيرية تقدم خدمات علاجية أو مساعدات طبية أو إنسانية.
فما هو وجه الحيرة إذن، ما دام هذا النظام يتضمن فرص الاختيار؟
هناك وجهان للحيرة لا وجها واحدا. الأول متعلق بالجمعيات الخيرية الصحية التي تقوم بجهد كبير في رعاية مرضى محتاجين للرعاية الصحية من خلال برامج تتعدى توفير العلاج والدواء إلى تقديم خدمات مساندة بعضها في شكل أجهزة ومستلزمات وبعضها في شكل خدمات اجتماعيه وزيارات للمرضى وخدمات لصحة الأم والطفل. وعلى سبيل المثال رصدت جمعية زمزم للخدمات الصحية التطوعية بمنطقة مكة المكرمة (52) مليون ريال لميزانية عام 1434هـ لتغطى تكاليف الرعاية لما يقارب (19000) مستفيد. وهذه الجمعية تستهدف خدمة الرضى المصابين بأمراض مزمنة أو القاطنين في أماكن نائية - مواطنين ومقيمين. ولا شك أن نشاطها محمود ونافع؛ ولكن ما حاجة هذه الشريحة من المواطنين إلى خدمة علاجية من جمعية خيريه في ظل نظام صحي حكومي يقدم خدماته لجميع المواطنين بدون مقابل؟ إذن لا يعقل أن يكون الفقر هو السبب المباشر، بل قد يكمن إما في عدم وصول الخدمة الصحية إليهم أو في صعوبة وصولهم إليها، كما هو الحال في أماكن الإقامة النائية المبعثرة في الصحراء أو بين الجبال. ومثل هذا (الفراغ الصحي) لا يستغرب وجود بؤر منه في بلد مترامي الأطراف. وقد لمست ذلك بنفسي ضمن فريق بحث عن إيصال الخدمات الصحية إلى المناطق النائية والبدو شبه المستقرين (باحث رئيسي د. عبد العزيز الناصر) قبل أكثر من عشرين سنة، وانتهى البحث إلى التوصية بتوفير طبابة سيارة منتظمة تنطلق من مراكز صحية محددة. وتتبع الجمعية الخيرية شيئاً كهذا من خلال القوافل المتنقلة لكن بشكل محدود. إلا أن مثل ذلك الفراغ الصحي قد يوجد أيضاً في بعض الأحياء الفقيرة أو العشوائية في المدن عندما يشعر سكانها بعدم كفاية الخدمات التى يجدونها في مركز صحي مزدحم بالمراجعين ضئيل الإمكانيات. في كل الأحوال تقدم الجمعية خدمات أفضل - خاصة مع وجود أخصائيين متطوعين.
الحيرة تنتهى بهذا السؤال: هل يستطيع النظام الصحي ملء هذا الفراغ - أم ننتظر من الجمعيات الصحية الخيرية أن تقوم بدور مكمل لدور النظام الصحي؟ فالإستراتيجية العامة للرعاية الصحية بالمملكة تتضمن ما يلي: ( تعمل وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية على تشجيع وتوجيه الخيرية على التوسع في الأنشطة الخيرية الصحية - وخاصة العلاجية).
الوجه الثاني لحيرتنا يكشف عنه الضمان الاجتماعي.
ذكر تقرير إخباري نشرته جريدة (الحياة) فى-26-2-2013 أنه يوجد خلاف في وجهات النظر بين وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية بشأن تنفيذ برنامج للتأمين الصحي على مستحقى الضمان الاجتماعي لكون موضوع التأمين يخضع حاليا للدراسة بموجب توجيه المقام السامي. ثم أوردت الجريدة مقابلات مع بضعة أشخاص من مستفيدي الضمان الاجتماعي خلاصتها أن مستحقات الضمان لا تكاد تفي بحاجات المعيشة، وأن كلفة العلاج والدواء باهظة، ولذا يطلبون شمولهم بالتأمين الصحي. وهو مطلب تتبناه وزارة الشؤون الاجتماعية. ويبدو من إشارة أولئك المستفيدين إلى كلفة العلاج أنهم يعنون مراجعة القطاع الطبي الخاص. لكن مستحقي الضمان الاجتماعي ليسوا أفرادا يعدون بالعشرات أو المئات، بل بالملايين. يتبين ذلك من تقرير إخباري لجريدة (المدينة) في - 23-9-2011- ذكرت فيه أن وزارة الشؤون الاجتماعية أودعت لحساب مستحقات الضمان لشهر واحد عام 1432هـ مبلغ (مليار) ريال وبلغ عدد الحالات المستفيدة (732.000) كل منها يستحق ما يقارب (800) ريال والباقي من المبلغ لمرافقيهم بما يقارب (260) ريال لكل مرافق، بحيث يمكن تقدير مجموع المستفيدين بحوالي (2.300.000) شخص - مع ملاحظة أن الأرقام مقربة ومستخلصة من تصريحات لمسؤولين. من هنا يثور سؤال منطقي: ما دام مستحقو الضمان الاجتماعي كلهم مواطنون ويعيش أكثرهم في مدن وقرى تتوافر فيها الخدمات الصحية التي تقدم مجاناً بلا مقابل، فما الذي يلجئهم إلى القطاع الطبي الخاص الذي لا يقدرون على كلفة مراجعته، ومن ثم يطالبون بالتأمين الصحي؟
عندما نطرح هذا السؤال تنتابنا الحيرة في محاولة العثور على الإجابة الصحيحة. سببان ذكرتهما المستفيدات في التقرير المشار إليه. الأول: (أن بعض المستشفيات الحكومية لا يتوافر بها كل شيء)، والثاني: (أن بعض المستشفيات يتطلب الانتظار وحجز المواعيد). فكأن هؤلاء المستفيدات يجدن عكس ذلك في القطاع الخاص: أخصائيين وأشعة ومختبرات، بدون إحالة من مركز صحي وفي أوقات دوام مرنة مناسبة لهن، ويجدن بيئة استقبال مريحة خالية من انتظار طويل في الزحام، وعيادات القطاع الخاص وصيدلياته أكثر انتشارا وأقرب لهن من المراكز الصحية الحكومية؛ وحيث لا يستطعن تحمل كلفة هذه المزايا يتمنين التأمين الصحي. والعذر لهن ولغيرهن حين يشاهد سكان الرياض - مثلا- وعددهم يفوق خمسة ملايين نسمة ما يقارب (500) مجمع طبي عام ومستوصف و(1460) صيدلية في مقابل (85) مركزاً صحياً حكومياً. ولكن: هل سيحقق التأمين الصحي أمنيات الحصول على مزايا القطاع الخاص عندما نعرف أن جهة التأمين تشترط مراجعة طبيب الرعاية الأولية وعن طريقه تتم الإحالة للأخصائي - إن لزم - وأنها تضع استثناءات كثيرة وتطلب الموافقة المسبقة على بعض الإجراءات الطبية، وأن الزحام والانتظار غير مستبعدين عندما يكثر عدد المراجعين المؤمن لهم؟ كذلك فإن القطاع الطبي الخاص قد لا يكون متاحاً لأعداد كبيرة من مستفيدي الضمان الاجتماعي القاطنين في أماكن نائية قليلة السكان لأنه لا يرى جدوى في العمل هناك. فهل يقوم العمل الصحي الخيري أيضاً هنا بدور مكمل للنظام الصحي سواء بوجود التأمين الصحي أو بدونه؟ إن في مجتمعنا شرائح أخرى تطالب بالتأمين الصحي - كالمعلمين والمعلمات (حوالي ثلاثة ملايين مع أسرهم) وكبار السن المتقاعدين - وشرائح مؤمن لهم بالفعل وهم المواطنون العاملون بأجر في القطاع الخاص (زهاء مليونين ونصف مع أسرهم). هل الأسباب واحدة؟ وهل الصورة عن التأمين الصحي واضحة؟ لو سألنا الناس: لماذا وكيف يريدون التأمين الصحي لربما زالت الحيرة، وعرف المخططون أي نوع أو أنواع من التأمين هي الأصلح.