الله، الله، ما أسرع أن نتحول وأن نتغير، ما أجمل استيعابنا للدروس وللتجارب بصورة رائعة ومذهلة؛ فهذا الذي نراه هذه الأيام في معرض الرياض الدولي للكتاب يمنحنا آمالا متفائلة بقدرتنا على أن نغير أنفسنا ونستوعب الدروس ونستلهم تجاربنا السابقة ونتجاوز أخطاءنا، سلاسة تثير الإعجاب حقا؛ فلا صوت مرتفع، ولا مشادة، ولا مصادرات للكتب من متحمسين مندفعين، ولا غزوات تشن، وفي المقابل لا تحرش، ولا انفلات أو تساهل في احترام الآداب العامة والأخلاق الإسلامية التي تربينا عليها وتشربنا بها، ولا مظاهر مزعجة تنبئ عن تحشد مناوئ رافض ما وصلنا إليه من توافق اجتماعي رائع يمنح كل الأطياف ما تتوق إليه ولا يغيض تيارا ويفرح غيره.
لقد اجتهدت وكالة الوزارة للشؤون الثقافية في استكمال نواقص الأعوام الفائتة؛ فأنشأت مسجدا للرجال ومسجدا للنساء، وانصرف المصلون إلى المسجد المفروش بسجاد نظيف وفاخر بعد أن كانوا يؤدون الصلاة في البهو الواسع الذي يتوسط المعرض، وخف الزحام في الممرات والأجنحة بإضافة الصالة الخامسة التي خصصت للمرأة وللطفل فاستوعبت أعدادا كبيرة من مرتادي مائة وخمسة أجنحة تعرض كتبها في تلك الصالة الجديدة المضافة.
وتعلمنا من تجارب السنوات التي خلت؛ فتوحد أمر الإشراف على ما تعرضه دور النشر إلى إدارة الرقابة على الكتب التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، وهي الجهة الوحيدة المخولة بسحب أي كتاب مخالف، وفي وسع من يلحظ ما يعتقد أنه لا يتفق مع قيم الدين أو يسيء إلى بلادنا أن يبلغ تلك الإدارة فتتولى النظر فيه، ولت تلك التشنجات التي تصاحب عدم الرضا عما تضمنه بعض الكتب، وعلم كثيرون ممن كانوا يتولون انتزاع الكتب من رفوف العرض بمخالفتهم الأنظمة والضوابط التي وضعت للرقابة والنظام المتبع لمراقبة ومحاسبة من يخالف سياسة الوزارة في الفسح أو المنع.
وولى إلى غير رجعة ما كان متبعا في سنوات المعرض الأولى بتخصيص أيام للرجال وأيام للنساء وأيام للجميع كما كانت تسمى في تلك الحقب القلقة، وبدأت إدارة المعرض منذ دورته الفائتة في ترك الأيام كلها مفتوحة للجميع، شأن المعرض شأن أي مجمع تجاري كبير أو منشأة عامة، أو مشفى، أو مطار، أو طائرة، أو ممشى، أو حديقة، وغيرها من المرافق العامة، فما حدث ولله الحمد ما يشين أو يثير الانزعاج، وتجلت القيم الأخلاقية السامية التي تشربها هذا المجتمع من تعاليم دينه وعاداته النبيلة، وهو الأمر المنتظر والمأمول منه، فما كان للخطوات الأولى السابقة المتحفظة القلقة ضرورة؛ وإلا لكان لزاما علينا تطبيق ذلك الإجراء بالفصل الحاد بين الرجال والنساء في كل المرافق العامة الأخرى، بحيث ننشئ لكل جنس مشفى وممشى وحديقة وسوقا وطائرة ومطارات وحافلة وغيرها، وهو الأمر المتعذر على التحقق بطبيعة الحال.
ما أسرع ما نتعلم، وما أسرع ما نتجاوز دروس الماضي، وما أجمل تدرجنا في تجربتنا الحضارية وانفتاحنا على العصر في مواءمة حكيمة راشدة بين قيمنا وما ييسر علينا أمور حياتنا مما هو ضرورة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا انغلاق ولا انفلات، ولا تقليد غبي أو استنساخ أحمق لتجارب غيرنا من القريبين أو البعيدين، ولكننا أيضا ليس لنا من خيار في أن نكسر حواجز الخوف من الجديد مما يكتب ويطبع ويثار فنقرأه ونستوعبه ونعيش الزمن الذي يعيشه العالم، فما صلح لنا ووافقنا قبلناه، وما شاقنا وضادنا وخالف قيمنا وما نعتز به رفضناه وأبنا وجهات نظرنا فيه، وهي تحولات تفرضها وسائل الاتصال الحديثة وتدخلها علينا في غرف نومنا فلا فكاك من استيعاب ما يدور في العالم من أفكار وتيارات، ومن يزعم أن في وسعه إقامة سدود حصينة أو بناء أسوار عالية منيعة فهو يحادث نفسه ويوهمها بكثير من خداع الذات، وكأنه العالم أو كأن العالم كله ملك يديه يتصرف فيه كما يشاء.
لا يشك أي مراقب محايد وغير منتم إلى أي تيار أننا نتحول، وأننا نتغير، وأننا الآن في زمن مختلف وحالة لا تشبه ولا تتفق مع ذلك الزمن الذي كان يضيق بنا أو نضيق به قبل عام 1420هـ.
تحولنا متئد متوازن، ولن يرضى عن هذا التحول الراشد إلى الأفضل والأكثر بهاء وحداثة وضرورة من ينتمي إلى الزمرة الليبرالية التي تطمح وتتوق إلى الأبواب المشرعة على إطلاقها بدون قيود، كما أنه لن يرضي عن تحولنا المتئد المتوازن أيضا من ينتمي إلى تيار المحافظة القاسية على النفس والانغلاق الشديد، فكثيرون من أتباع هذا التيار لا يرون في خطوات الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى ووسائل وطرائق حداثة العصر إلا الشر كله، كما أن دعاة الانفتاح بدون قيود ولا شروط لا يرون في الاتزان والاعتدال إلا انصرافا عن العصر واحتماء بالذات وقلقا وارتباكا وخوفا من الجديد، ولعل الخير في التوسط بين المندفعين والمغالين؛ فالانفلات بدون قيود شر، والانغلاق على الذات بدون تبصر ولا حكمة ولا دليل ولا قدرة على الاجتهاد والتفكير موات وتلاش وفناء في الذات المنغلقة نفسها.
تجربة معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام تستحق أن نقول لوكالة الوزارة للشؤون الثقافية شكرا جزيلا من الأعماق بحجم الرؤية الوطنية الراشدة المتفائلة للمستقبل.
moh.alowain@gmail.commALowein@