مازلنا بصدد الحديث عن جامع القرويين تعميما للفائدة وتذكيرا بتاريخنا الزاخر بالدروس والعبر للأجيال الحالية واللاحقة؛ وإذا كان التاريخ قد بخل بإعطاء بعض التفصيلات الأخرى فإنه - على العكس من ذلك -
يذكر أن المباشر الأول لشؤون إدارة القرويين والمسؤول عن سائر أوجه نشاطها هو قاضي المدينة فهو مدير الجامعة الذي له الحق في تخويل الكراسي العلمية لمن رآه كفؤا من العلماء، وهو ينصب أئمتها ويراقب نشاطهم بل هو الذي يشرف على أعمال البناء فيها ويدير ميزانيتها حسب الأولويات والحاجات.
وكما نرسل أبناءنا اليوم إلى أوروبا وإلى أمريكا، كانت سائر البلاد الأوروبية تتجه في عصور الازدهار الإسلامي في الغرب الإسلامي نحو الأندلس نحو قرطبة بالذات لتغترف من معين الحضارة العربية هناك، ولما كانت أرض المغرب قد امتزجت امتزاجا وثيقا بجنوب أوروبا، بالأندلس، فقد كان الطلاب الذين يردون على قرطبة المسلمة لا يجدون صعوبة في الالتحاق بعدوة المغرب عبر مضيق جبل طارق.
ولقد كان الأسقف جيربير Gerbert d’Aurillac فيمن تحدث “بندلي جوزي” عن وصوله إلى جامع القرويين بفاس أيام كانت أوروبا تعيش عصورها الوسطى .
ولقد كانت المساجد الأخرى بفاس بمثابة فروع محلية في كل حارة من الحارات، بل وكل منعطف وزقاق وعلاوة على أن هذه المساجد تقتدي جميعها في التوقيت بمنار القرويين فإن جلها مزود بكراسي علمية... بل وأحيانا بخزانات تضم عشرات المجلدات... ويصح أن نذكر في صدر هذه الفروع جامع عدوة الأندلس... ومسجد بن تومرت بطريانة... أما في باقي المغرب فقد تعزز جامع القرويين بمساجد عظيمة سواء في الجنوب أو الشمال، أو الشرق وبالعشرات من الرباطات الأخرى التي انبثت هنا وهناك...
اما المرحلة الثانية فتشمل المرينيين والوطاسيين والسعديين؛ فالموحدون لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام حملات بني مرين، وهكذا تملك هؤلاء زمام الأمر بفاس وأسسوا هناك المدينة البيضاء كمقر لبلاطهم... ولما كان مذهبهم الرجوع لكتب الإمام مالك فقد حرصوا منذ البداية على إنشاء المدارس الداخلية التي مكنتهم من الإشراف على سير التعليم، علامة على ما وجدوا فيها من حلول لمشكلة سكنى الطلاب الذين اخذوا يتواردون اكثر من ذي قبل على مدينة فاس، والمرينيون - كأسلافهم المرابطين والموحدين - كانت سياستهم تتجه إلى الاحتفاظ بما تبقى من الأندلس، فكانت لهم هناك مواقف تحدث عنها التاريخ خاصة في أيامهم الأولى، ومن الأندلس نقلت ثلاثة عشر حملا من نفائس المخطوطات، وبالرغم من أن الحروب في إسبانيا قد أثقلت كاهل الدولة فقد ظل الملوك المرينيون يشيدون المعاهد هنا وهناك، وأمست العاصمة موئلا لمعظم رجال الفكر، وجاء دور السلطان أبي عنان فترك آثارا علمية إلى جانب المدارس، ثم كان السلطان أبو فارس الذي ألف من أجله تاريخ ابن خلدون، لكن، الحجاب استبدوا أواخر الدولة بالأمر دون الملوك، فكانت بعض الاحتكاكات والأندلس بين هذا وذاك تسلم النفس الأخير والهجرات تتوالى من ثمة على المغرب، ثم كانت كارثة سنة 818 هـ (1416-1415م) حيث سقطت سبتة المغربية في يد البرتغال، وهنا انصرفت جهود المغاربة عن بكرة أبيهم إلى طرد الأجنبي عن “المدينة العالمة” وتحولت “الدروس” في المساجد إلى محاضرات في البطولة والغزو وإلهاب الحماس وامتدت الأيدي إلى أوقاف القرويين لاستغلالها من أجل الدفاع عن الحوزة، وخلافا لما كنا نعتاده قبل اليوم من قيام الممالك على أساس نشر مذهب معين من المذاهب، على عكس ذلك أخذنا نشاهد أنها تقوم الآن على أساس المنافسة من أجل محو عار سبتة وكثر المتطوعون والمقاومون، كل يرى نفسه جديرا بقيادة المعركة الحاسمة، وكانت وقعة وادي المخازن (986) (1578م) التي لقي فيها مصرعه ملك البرتغال، واستشهد فيها عيون الفقهاء والعلماء، وكان ذلك النصر الذي قوى عزائم الناس فازدهرت الحياة، بيد أنه بعد وفاة المنصور السعدي عام 1012هـ (1603م) رجعت الأحوال إلى أسوأ مما كانت عليه وعرفت فاس أياماً حمراء، وعبثا حاول حفدة المنصور السعدي أن يسترجعوا الهدوء، فإن الاحتجاجات توالت ضد التهاون في تسليم مدينة العرائش، ولبس المواطنون المغاربة “النعال السود” حدادا على هذه الأيام،ضاعت في هذه الفترات العابسة خزانات علمية متنقلة وتعرض نفر من العلماء لمساومة المتزعمين فقتل البعض ولاذ البعض بأذيال الفرار!
وإذا كانت المرحلة الأولى من حياة القرويين الفكرية تمتاز بقلة المصادر التاريخية فإن هذه المرحلة نالت على العكس من ذلك حظا وافرا من اهتمام المؤرخين سواء منهم الذين زاولوا دراستهم بها أو الذين أتيحت لهم الفرصة للتعرف عليها، وقد ذكر أبو الحسن علي ابن ميمون (ت 917هـ -1511م): إنه “ما رأى مثلها ومثل علمائها في غزارة الحفظ لنصوص المذاهب ولنصوص كل علم من العلوم، وإنني - يقول أبو الحسن - ما رأيت مثلها ومثل علمائها في تلمسان وبجاية وإقليم الشام بأسره، وبلاد الحجاز ومصر على ما تقرر عندي من العلم اليقيني...”
وتعتبر هذه المرحلة، وخاصة منها أيام المرينيين من أزهى فترات القرويين إذ غنيت المواد الدراسية وتنوعت نتيجة لهذا الإقبال المتوالي على مدينة فاس، لقد كانت هنا كراسي العلوم الدينية إلى جانب كراسي العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب، إلى جانب العلوم الطبيعية والرياضية، وطغى الحفظ للنصوص على رجال العلم لدرجة القول بأن من لم يستحضر عندهم النص على مسألة في علم من العلوم لا يلتفت إليه، وكانت عبارتهم السائدة “من لم يحفظ النص فهو لص”!!
ولا بد لمن يريد أن يعرف عن الوضع الثقافي للمرأة في فاس أن يزور جامع القرويين ليقف على مواقع كانت مخصصة للسيدات اللواتي يرغبن في سماع ما يقدمه العلماء من أعلى كراسيهم لتلامذتهم الذكور.
هناك ما عرف في التاريخ المعماري للقرويين باسم “المستودعات” عبارة عن أروقة مرتفعة عن أرض المسجد تقع في أخرياته، وقد سميت بالمستودعات لأنها بنيت فوق مخازن حيوية للجامع، وهناك مستودعان اثنان: المستودع الذي يصعد إليه بدرج ويحمل اسم العالم الكبير ابن عباد، ومستودع يجاوره يشرف على الصحن.
وهناك ما عرف باسم “الخلوة” أحياز مفصولة بمشربيات تسمح برؤية محتشمة للنساء، لمن يوجد على الكراسي من العلماء، هذه (الخلوة) قد تحمل اسم (الأسبوع) لما أنها تكون أيضا مكانا للقراء الذين يختمون القرآن موزعا على أيام الأسبوع.
هذه الأمكنة الأربعة الموزعة على مشرق ومغرب الجامع توجد على مقربتها كراسي علمية يعلوها أساتذة من تخصصات متعددة.
في استطاعة السيدة إذن أن تقصد المستودع الذي يوجد في أخريات الجامع والذي له مدخل خاص به كما قلنا لتستمع إلى الأساتذة.. كما في استطاعتها أن تصل إلى الخلوة التي توجد في الصف الأول من الجامع الأول.
وهكذا ترى أن للمرأة حقا في التثقيف والتعليم عبر هذه القرويين، ومن هنا تعرفنا على أسماء سيدات عالمات كن مثلا في تنوير الرأي من طينة عائشة المغيلية وسارة الحلبية وأم هاني العبدوسية... وأختها فاطمة التي عدها المؤرخون من اكبر العالمات في شؤون القضاء.