هذا الرجل تأخرت في الكتابة عنه وإعطائه بعض حقه كما تحيرت أيضا في الكتابة عن الشيخ أحمد عبدالغفور عطار الذي خبرته وجايلته وعرفت عنه الكثير وأشعر نحوه بالتقصير. هناك شخصيات لا تدري لماذا تتهيب أن تكتب عنها أو تترجم لها؟ هل لأنك لا تستطيع تقديمها بما يليق
أو وصفها بما يحسن بمقامها فتهاب التقصير وتتعمد التسويف والتأخير.
كان الشيخ عثمان رحمه الله أحد كبار رجال الدواوين الملكية في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز وولي عهده الأمير سعود رحم الله الجميع.
هو من الأسرة الكبيرة والكريمة المعروفة في مدينة المجمعة قاعدة إقليم سدير حيث ولد وشب ونشأ ودرس على علمائها ثم تقلبت به الحياة الدنيا فأصاب قليلا من شظفها وأدرك كثيرا من ترفها. تدير الحجاز شطرا من حياته. استقر بمدينة الطائف تحديدا فيها عرفته عن قرب وصاحبته بالجنب كان واضح الشخصية قوى العارضة متين الثقة بنفسه جسورا في الحديث مندفعا في التحدُث سريع التعارف على الناس كأنه لاقاهم من سنين واسع العلاقات مع مختلف الطبقات من أدناها إلى أعلاها.
كنت يوم تعرفت عليه موظفاً مبتدئا في ديوان رئاسة مجلس الوزراء يوم كان الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولياً للعهد وعضدا لأخيه الملك سعود رحمهما الله.
كان التويجري يحب الفزعة مع الناس الذين يقصدونه ويرجونه أو يرسلون له طلبات وأرقام لمعاملات لهم أيام وجود الدولة وقت الصيف بالطائف، كان يلقاني ويناولني بعضها لأتابع سيرها وآتيه بخبرها وما تم عليها من إجراء كان يحب أن يعرف نتيجتها ليدخل السرور على أهلها كانت داره في حي الشرقية وبستانه في ضاحية القمرية لا يخلوان من ضيف قادم أو خاطر عابر إما من نجد أو إليها.
كانت الأحوال المادية في تلك الظروف لأكثر الناس وهو منهم لا تخلو من عدم استقرار بين ارتفاع وانخفاض وعسر ويسر كان رحمه الله يتجمل ويتحمل والناس لا ترحم والقاصد لا يعلم.
إن الكريم ليخفي عنك خلته
حتى تراه غنياً وهو مجهود
كان رحمه الله مضيافاً وللمال متلافاً كان يعطي ويعين ويمد ويرفد لأنه تعود بسط الكف منذ كان يعمل في الدواوين الملكية.
وقد قدم ساعة يدوية ثمينة هدية للأستاذ الشاعر فؤاد شاكر مدحه عنها بأبيات سمعتها منه ونسيتها الآن.
كان لديه مجلس ينعقد عصر كل يوم في ظلال بستانه بالقمرية يحضره بعض الشخصيات الاجتماعية والموظفين المنتدبين تقدم فيه مع القهوة العربية بعض الفواكه الموسمية تتخلله أحاديث وذكريات فيها شيء من مداعبات ومفاكهات كان ذلك المجلس عبارة عن ندوة يومية تسمع فيها الكثير من أخبار وعلوم والقليل من أشعار وهموم.
وإنك لواجد في تلك الجلسة مختلف الأطياف حيث ترى القاضي الشرعي كالشيخ حمد بن مزيد وابنه أحمد والأكاديمي الجامعي مثل الدكتور علي عبدالرحمن أبا حسين والأديب والمؤرخ كالأستاذ أحمد عبدالغفور عطار والشاعر الشعبي أو الطالب المنتظر خلو المجلس وفراغه ليفرغ لصاحبه ما امتلاء به صدره وحضر من أجله وهو طلب شفاعة عند مسئول.
كان الشيخ عثمان يعد بعض أصحاب الحاجات صباحا ثم يحملهم بسيارته الخاصة إلى مكاتب بعض الوزراء والمسئولين يسعى معهم لقضاء حوائجهم وتحقيق مطالبهم وكم شفع وتوسط لطلاب بعثات إلى الخارج.
ومن جميل الذكريات أن سماحة السيد (أبو الحسن الندوي) الزعيم الإسلامي الكبير في الهند أم الطائف في أحد زياراته للمملكة فكرمه الشيخ عثمان بحفل شاي أنيق سرا به سماحة السيد ومن معه من المرافقين انشرحت صدورهم للمجلس والبستان وطلاقة وجه الشيخ عثمان.
وكذا شاعر العربية الكبير الذي انتهت إليه زعامة الفكر والشعر في المهاجر الأمريكية رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) حظرنا لتلك الدار في القمرية وانعقدت جلسة عفوية دارت بها أحاديث وأسئلة وأجوبة وكثير من نثر فني جميل وشيء من شعر قليل.
وقبل الوداع قدم التويجري للشاعر القروي هدية قيمة تذكاراً لذلك اللقاء الذي لا ينسى وهكذا كان رحمه الله على صلة وتواصل كما ذكرت مع كبار المفكرين والأدباء البارزين من أمثال الأستاذ الشيخ عبدالقدوس الأنصاري والأستاذ أحمد محمد جمال والعطار وغيرهم من الكبار زارهم في مكة وجدة وزاروه بالطائف. كتب في مجلة المنهل مقالات عدة مرات ولما توليت رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة قبل أكثر من أربعين عاما كانت المنطقة تمر بظروف التراشق الإعلامي والتلاسن الإذاعي كان موقف المملكة وقادتها ضد تيار اليسار الثوري والدجل اليومي والتظليل والأكاذيب وحروب الافتراء والإفك.
كان رحمه الله يشارك ويكتب ويتحدث ويدافع عن وجهة نظر هو مقتنع بها لأنه كان معجباً بالملك الحكيم فيصل بن عبدالعزيز وسياسته وثبات رأيه ورجاحة عقله في وقت كان فيه بعد المتلونين والمتقلبين في صفوف المجتمع السعودي عكس ذلك.
كان رحمه الله صريحا وجريئا في قول ما يعتقد واعتقاد ما يقول وقد أورثه ذلك كما أورث غيره متاعب ومصاعب وعداوات وخصومات إنها مرحلة عجيبة لا تزال الأمة العربية تدفع ثمن حماقتها.
وأثناء عملي في رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة حصلت لي بعض المضايقات من بعض أعضاء المؤسسة وبعض المسئولين في وزارة الإعلام بسبب المواقف التي ذكرت وقد أفضيت له بذلك فكان رحمه الله خير مساند ومعاضد وقد كتب وتحدث مع بعض المسئولين وسعى وأيد كان شديد الوطأة جسور الخطوة وقد أورثه ذلك مع مواقفه الأولى ضد الإعلام المُعادى لبلاده كثيراً من الأعداء وقليلا من الأصدقاء وهكذا الرجال الشرفاء أصحاب المبادئ والمواقف كان يواجه الناس ويجابههم في وجوههم وليس من خلفهم كما يفعل الجبناء لذلك كثر الذين إذا حضر هابوه وإذا غاب عابوه (ذلك والله هو السيد كما قال الأحنف ابن قيس التميمي).
كان رحمه الله يعظٌم العلماء ويكرم الأدباء ويجبه ويحجم الجهلة والسفهاء (لأنه يملك شجاعة يميز بها الخبيث من الطيب) وليس كالبلهاء الذين لا يحسنون التصرف كما نشاهد في أكثر مجالسنا اليوم من انحطاط وفوضى وتسيب مع الأسف. كان يحس ويشعر ومعه الحق في ذلك ويردد أحيانا قول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي مُنفساً عن نفسه ومعبراً عما بداخله وحدسه
ما كنت أحسب أن يمتد بي أجل
حتى أرى أمة الأوغاد والسفلا
تقدمتنى أناس كان ركضهم
وراء مشى لو أمشى على مهلي
كبر أولاده النجباء والتحقوا بجامعة الملك سعود بالرياض خاصةً عبدالعزيز وأحمد فاضطر للانتقال معهم والاستقرار بقربهم ثم أبعثوا للدراسات العليا في أمريكا سافر معهم إلى هناك.
فطابت له الأيام وواصل المقام أعجب عندهم بنظام الحياة ونظافة الأحياء وأشياء كثيرة أخرى ولما عاد حدثنا عما رأى وشاهد لكنه ما نسى الحجاز ولا سلا الطائف وبساطة العيش فيها ثم أدركه الكبر وضعف البشر فأدخل مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض.
عالج من داء لم ينفع معه نطس الأطباء.
توفي بعد ذلك رحمه الله وغفر له كفاء مواقفه الرجولية ونخوته العربية وسعيه في قضاء حوائج الناس والشفاعة لهم.
ما زلت تدفع كل أمر فادح
حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
مازلت تفجع في الأحبة بعدهم
وذهاب نفسك لا أبالك افجع
كانت له مراسلات مع كبار المسئولين في الدولة وأجوبة منهم عليها تتعلق ببعض الآراء والمقترحات في ظروف مختلفة كانت أجوبتهم له تدل على تقدير لشـخصه واطمئنان لهدفـه وثـقة لإخلاصه لوطنـه.
كان رحمه الله سريع الاستجابة لمن يطلبون مساعدته عجولا في الفزعة كأنما عناه الشاعر العربي القديم بقوله:
لا يسالون أخاهم حين يندبهم
للنائبات على ما قال برهانا
كان وفيا وحفيا بذكرى رجال وقفوا معه في ظروف صعبة خاصةً الشيخ محمد سرور الصبان وزير المالية فـي عهد الملك سعود فقد أبدى أسفه لوفاته وحزن لغيابه وأمثاله فكان عبداً شكورا.
كان رحمه الله لا يشح برفده ولا ينكس عن وعده.
كان وهابا لا نهابا زاره في داره على حين غرة ضيف عربي عزيز فأسرع لا يلوي بل يطوي سجادة ثمينة لديه بحركة عجيبة ثم قدمها هدية بنفس راضية سخية وذات ربيع مخصب في عام ممطر دعا الشيخ عثمان الأستاذ حسين أبو بكر قاضي مدير البنك الزراعي السعودي وآخرون لزيارة محافظة المجمعة وقد رافقتهم في تلك الرحلة لقينا هناك كل ترحاب وكرم ضيافة تجولنا في عدة أماكن قابلنا أمير المجمعة في ذلك الحين الشيخ محمد العبد الله السديري رحمه الله وبعض كبار الأهالي ووجهاء تلك الجهات كانت رحلة ممتعة بحق في جو ربيعي رائع. سقى الله تلك الأيام. وفي إحدى السنوات دعت شركة الزيت السعودية (أرامكو) وفدا من صحيفة الجزيرة لتفقد منشآت الزيت وزيارة محطات التكرير وموانئ التصدير وغيرها توجهنا إلى الظهران الشيخ عثمان والأستاذ أحمد عمر عباس الكاتب والمثقف السعودي الكبير وآخرون كنا نقدم الشيخ لمكانته وسنه وتجربته في الحياة والناس كانت رحلة أيام مرت كأنها أحلام.
(أعتقد أنني أحتفظ بصور عنها).
وأخيرا هذا مقال تأخرت في كتابته سنوات لكن لم يتأخر تذكري له ساعات لعلك في جوار الله باق.. ويشفع في خطاياك الرسول.
الطائف - من عصبة الأدباء