كان كل شيء عاديّا وهادئاً في تلك الأسرة الصّغيرة، المكوّنة من أب وأم، وأبناء وبنات يجمعهم حب كبير وأُلفة عجيبة في ذلك البيت المتواضع، إلا علاقة(جبران) ذي الثّلاثة عشر ربيعاً بأخته (فرحة) ذات الخمسة عشر ربيعاً، فقد ولد جبران بعد فرحة فنشأ معها، فتعلّق هو بها، وتولّعت هي به، وبرغم كونهما جزء من الأسرة الأم، إلا أن حبّهما لبعضهما جعلهما كأسرة داخل الأسرة، يقضيان معظم الوقت معاً، يجلسان معا، يضحكان معاً، يذاكران معاً، وينامان معاً، كانت الحياة لا تحلو لجبران من دون فرحة، ولا لفرحة من دون جبران، كان هو عالمها الصّغير، ونافذتها على العالم الكبير، وكانت هي أمّه وأخته وعقله وقلبه وكل حواسّه، تغسل له ملابسه دون سائر إخوتها، تُرتّب له كُتبه، وتُسطّر له دفاتره، وتكتب له وسائله، وهو يقضي لها كل احتياجاتها دون سائر أخواته، تفعل له كل شيء، وكأنّها تفعله لنفسها، ويهتم بكل أشيائها اهتمامه بأشيائه.

يحدّثها عن مدرسته، ومدرّسيه وزملائه، كره كرة القدم من أجل فرحة، وأحب البقاء في البيت من أجلها، وهي تركت الجلوس إلى النّساء مع أمّها حبّاً في الجلوس معه، كانت فترة الدّوام المدرسي فراقاً كبيراً وطويلاً بينهما، يلتقيان بعدها بحرارة كبيرة وفرحة طاغية وضحكة هستيريّة، لقد كانت فرحة هي كل واقع جبران وخيالاته، وكان هو بالمقابل كل معارفها وخبراتها، وكانت حميميّة العلاقة بينهما مثار استغراب وتعليقات وسخريّة بقيّة أفراد الأسرة، لكن كل الأسرة كانت تعلم أن جبران وفرحة هما روح البيت وفرحه وعطره وسعادته، كانت فرحة قد توقّفت عن الدّراسة بعد المرحلة الابتدائية ككل قريناتها لعدم وجود مرحلة متوسّطة بالقرية، أمّا جبران فبعد أن نجح من المرحلة المتوسّطة كان عليه أن يُكمل المرحلة الثّانويّة في المدينة الّتي تبعد عن القرية قرابة المائتي كيلو متر، وعندما بدأت الدّراسة وسافر جبران إلى المدينة وغاب لأوّل مرّة أسبوعاً كاملاً، كان الكل حزيناً، لكن حُزن فرحة كان مختلفاً، كانت صامتة، شاردة، شاحبة يفترسها الحزن المقدّس على غياب توأم روحها جبران، كانت تشعر بالغربة والوحدة وهي بين أهلها، كان الكل متعاطفاً معها، وكان الكل يُقدّر وضعها، حاولت الأسرة بكل الوسائل إخراجها من حالتها تلك دون جدوى، غابت بسمتها العذبة، وضحكتها البريئة، غابت روحها المنطلقة، ومشاعرها الجيّاشة، غاب حنانها الدّافئ، أصبح الحزن كهفها، والصّمت لباسها، والبكاء لغتها، وكان جبران حين يعود يومي الإجازة الخميس والجمعة، وعندما يصل إلى البيت مباشرة يرمي كل أشيائه وينطلق إلى غرفتهما منادياً فرحة، فرحة، فرحة، فيعم الفرح البيت كلّه، وتولد فرحة من جديد، ويغيب بقيّة أيّام الأسبوع فتغيب فرحة من جديد، ولأن غياب جبران كان أكثر، فقد كان غياب فرحة أيضاً أكثر، وفي ليلة من ليالي الصّمت الّذي أصبح يُخيّم على البيت أمسكت الأم بيد فرحة وأخذتها إلى مكان قصيّ من البيت، وأخبرتها أن (فايع) ابن الجيران قد جاء يطلبها للزّواج، توقّعت الأم أن هذا الخبر سيخرج فرحة من حالتها نهائيّاً، لكن فرحة تقبّلت الخبر بشكل عادي جدّا، تقبّلته بحياء العذارى، وخجل الإناث، لكنّه لم يُسيطر على فكرها ككل الإناث وكل العذارى، فقد ظلّت عودة جبران تعيدها للحياة، وغيابه يُغيّبها عن الحياة، وعلى المسار الآخر ومع مضيّ الوقت ومرور الأيّام كان موعد زواج فرحة يقترب - حيث حدّد له الإجازة اصّيفيّة - دون إحساس لا من فرحة ولا من جبران، وانتهى العام الدّراسي فعلاً، وعاد جبران، وعادت فرحة للفرح من جديد، لكن أيضاً جاء موعد الزّواج، وبدأت الاستعدادت داخل الأسرتين لهذا اليوم الموعود، بينما كان جبران وفرحة يرويان لبعضهما الحكايا الّتي حال الفراق دون أن تروى، وجاء يوم الخميس وشهد احتفالاً جميلاً يتناسب ونية فرحة الطّيبة، كان الكل سعيداً إلا جبران وفرحة، كان هناك شعورٌ مُشتركٌ بينهما أن هذا الزّواج هو بداية النّهاية لألفتهما، وفعلاً نام جبران بدون فرحة، ونامت فرحة لأول مرّة مع رجل غير جبران توأم روحها، أسبوع، أسبوعان، شهر، شهران، انتهت الإجازة، وغادر جبران إلى المدينة للدّراسة، وبعده بأيّام غادرت فرحة إلى مدينة أخرى مع زوجها، خلا البيت من جبران وفرحة، وبكى الأب، وبكت الأم، وبكى الإخوة والأخوات، لقد افترق التّوأمان، توأما الحب والفرح والسّعادة، وبعد أسبوع عاد جبران خلال الإجازة الأسبوعيّة، وكعادته رمى كل أشيائه من يده وانطلق نحو الغرفة ينادي بأعلى صوته فرحة، فرحة، فرحة، وهذه المرّة بكى جميع أفراد الأسرة، وبكت معهم الجدران والأبواب، وبكت الأشجار والطّيور، والأودية والجبال، وسارعت الأم واحتضنته باكية وأخبرته أن فرحة سافرت مع فايع إلى المدينة الّتي يعمل بها، تغيّرت ملامحه، شعر أن الدّنيا تدور به، تغيّرت تفاصيل البيت في عينيه، وسقط مغشيّا عليه، وحينما عاد إلى المدينة أصبح يغيب بالشهر والشهرين عن أهله وقريته، فليس في الدّيرة ما يجذب، جبران حزين، كئيب، في البيت والمدرسة وفي كل مكان، كانت أسرته تعرف أن السّبب هو غياب فرحة، لكن لا أحد كان (يحسّ) بالسّبب كما كان يُحس به جبران، وبعد سنة جاءت فرحة في زيارة لأهلها، والتقت جبران، لكنّها ليست فرحة الأولى، فرحة حامل، فرحة تهتم بزوجها فايع كثيراً، خطوط الحوار تقل وتتباعد بين جبران وفرحة، فقط مداعبات متباعدة، فرحة تقول: إن أنجبت ولداً سأسمّيه جبران، جبران ينتشي بهذا الخبر، الّذي حرّك جدران قلبه، وجدران البيت، فرحة تغادر، وجبران يُغادر، فرحة تُنجب ولداً وتسمّيه جبران هكذا جاء الخبر إلى جبران، جبران يفرح فرحاّ ميّتاً، افتقاده لروح فرحه يفقده الإحساس بجمال الأشياء، فرحة تعود، وجبران يعود، يلتقيان، اهتمام فرحة منصب على زوجها، وعلى جبران، لكن هذه المرّة جبران الصّغير، وليس جبران الكبير.

جازان