من المدهش أن نصل كبلد نام وبهذه السرعة إلى الفترة التي تضاءلت فيها قيمة الشهادة الجامعية بامتلاء سوق طالبي العمل بحاملي الشهادات الجامعية الذين يبحثون عن عمل وخاصة بين النساء حيث تبلغ نسبة البطالة بين خريجات الجامعات وكما قدرتها بعض الدراسات (قبل حملة التوظيف الأخيرة) بحوالي 56 % من مجمل طالبات الوظيفة في المملكة. هذه الظاهرة تعرف علميا باسم (Certificates escalation
أي التصاعد التدريجي للشهادات المطلوبة لأي عمل رغم أن العمل نفسه قد لا يتطلب هذه الشهادات ولذا شبهت بالدرج الكهربائي وهي ظاهرة اقتصادية وتربوية تظهر حين يقل العرض في الوظائف ويزيد أعداد الخريجين مما يدفع أرباب العمل إلى توظيف ذوي الشهادات الأعلى لتوافرهم في سوق العمالة حتى لو لم تكن طبيعة العمل الذي يؤديه الموظف بحاجة لهذه الشهادة فقبلا لم تكن وظيفة سكرتيرة مثلا بحاجة إلى شهادة جامعية وربما دبلوم بعد الثانوية قد يؤدي الغرض لكن وفرة المعروض من خريجات الجامعة رفع متطلبات هذه الوظيفة حتى وصلنا إلى الشهادة الجامعية بل وصل الأمر إلى ان الكثير من الفتيات يقبلن بوظيفة بمسمى مستخدمة وهن خريجات الثانوية في حين لم تكن هذه الوظيفة تتطلب مؤهلا اصلا قبل عشرين سنة.
هذا الارتفاع التدريجي للطلب على المؤهلات الأعلى يؤدي بطالبي الوظائف بالضرورة إلى محاولة تحسين موقعهم في سوق العمل بطلب المزيد من التعليم والشهادات اعتقادا منهم أن هذا قد يحسن فرصتهم في الحصول على الوظيفة الأمر الذي يزيد من الضغط المجتمعي على مؤسسات التعليم وعلى الدولة التي تدفع ثمن هذا التعليم حتى لو لم يكن ذي جدوى عملية أو علمية. وقد شهدنا ذلك في مؤسساتنا الجامعية في كل المناطق والتي تفجرت منابع برامج أقسامها المختلفة إنسانية وعلمية ببرامج الدراسات العليا رغم الضعف المخيف في مخرجات هذه الأقسام لعوامل لا تتسع هذه المقالة لمناقشتها اليوم.
المشكلة أن التعليم الجامعي وكما يرى كثير من الباحثين حول العالم اصبح متطلبا اوليا للدخول إلى سوق العمل في كل انحاء العالم تقريبا. وفي كتاب أخير نشره كل من ريتشارد اروم و جوسيبا روكاسا تحت عنوان: الثرثرة الأكاديمية: التعليم المحدود في حرم الجامعات وقاما فيه بطرح السؤال الخطير: هل نتعلم حقا حين نلتحق بالجامعات؟
المؤلفان قاما بتتبع 2300 طالب جامعي منذ الفصل الأول لالتحاقهم بخمس وأربعين مؤسسة جامعية في الولايات المتحدة حيث أخضعوهم لمقاييس مقننة تكشف مجالات تحليلية ومعرفية كثيرة مثل مهارات الاستقراء والاستنتاج واختبار الفروض ثم طبقوا عليهم نفس هذه المقاييس بعد سنتين من الدراسة وتبين ان اكثر من 45% من هؤلاء الطلاب لم تتحسن لديهم قدراتهم التحليلية او العلمية او الرياضية أو حتى الكتابية! واستخدم الباحثان هذه النتائج (المخيبة) لعمل الجامعات في الولايات المتحدة للبدء في التساؤل حول النفقات المتصاعدة للتعليم الجامعي في امريكا حتى ان الوالدين عادة ما يبدآن في تجميع نفقات تعليم ابنائهم منذ ولادتهم وهل هناك ما يبرر كل هذا الأنفاق وهل فعلا تحتاج الكثير من الأعمال التي يتطلبها عالم العمل اليوم إلى هذا النوع من التعليم المكلف؟؟
المدهش أن هذا يقال حول التعليم في الولايات المتحدة التي تبتعث كل أمم الأرض أبناءها للتعليم فيها باعتباره تعليما جامعيا متميزا فكيف بحال التعليم الجامعي في الدول النامية أو الفقيرة؟
في دراسة أجرتها ميساء الأحمدي من قسم علم النفس بجامعة الملك سعود والتي قدمتها في ملتقى طالبات الدراسات العليا كباحثات والذي نظمته وحدة شؤون الدراسات العليا بكلية التربية بجامعة الملك سعود مؤخرا قامت الباحثة بتطبيق اختبار كورنيل للتفكير الناقد على أكثر من ثلاثمائة من طلبة إحدى الجامعات السعودية وتبين ان الطلبة السعوديين أقل بخمسين بالمائة (50%) في مهارات التفكير التحليلي والتفكير الناقد من نظرائهم من طلبة الجامعات الأمريكية ممن طبق عليهم هذا المقياس؟؟!!
هذا فقط في الجانب التحليلي والنقاد ولنقم بدراسات مثلا نطلب فيها من طلاب الجامعات السعودية ان يكتبوا رسالة سليمة باللغة العربية لشركة اخرى مثلا أو ان يقوموا ببعض العمليات الحسابية البسيطة أو لنختبر معلوماتهم العلمية أو الأدبية أو النحوية أو ما يعرفون حول مشكلات العالم الاقتصادية والبيئية لنكتشف أن النفقات على هذا النوع من التعليم ليس بالضرورة تؤتي اوكلها دائما وان فكرة البطالة حقا لا تتركز في عدم وجود العمل في سوق العمل بل بضعف امكانات الكثير من طالبي هذا العمل.
ماالذي نفعله نحن كأفراد حين لا نجد عملا؟ نلجأ لمزيد من التعليم وطلب الشهادات لعله يمكننا من أن نفوز في عمليات التمايز التي يجريها ارباب العمل ويضغط المواطن والأهالي على الدولة لفتح مجالات تعليم اكبر لقطاع اكبر فتنتفخ اشداق المجتمع والمؤسسات بالشهادات التي تمنحها بلا هوادة مؤسسات أكاديمية وجامعية ضعيفة في الكثير من امكاناتها وبرامجها ومخرجاتها ويتضخم أعداد حاملي الشهادات العليا (ليس الوهمية هذه المرة) بل الحقيقية المعطاة من مؤسسات مرخصة ولها وزنها محليا لكن هل تحتاج اعمال اليوم إلى هذه الشهادات فعلا بما يبرر حجم الأنفاق الحكومي المتزايد على برامج التعليم العالي والدراسات العليا أم ان ما تحتاجه هو مهارات عقلية وتحليلية واتجاهات مناسبة نحو بيئة العمل والرغبة في التعلم والإنجاز والابتكار والتعاون مع المجموعة ولغة عربية سليمة وقدرة كتابية في مجالها وهو بالتأكيد ما لا يقدمه التعليم العالي في بلادنا.