قبل منتصف شهر ديسمبر من العام المنصرم أقدم أحد الأمريكيين على ارتكاب جريمة شنعاء بإطلاقه النار على طلبة مدرسة ابتدائية بولاية كونيتيكت الأمريكية راح ضحيتها 27 شخصا معظمهم من الأطفال، وعلى الفور هرع الرئيس أوباما إلى غرفة الاجتماعات بالبيت الأبيض
ليلقي كلمته الموجهة لشعبه عبّر فيها عن (حزنه العميق) بل ولم يتمالك الرجل نفسه فذرف الدموع باكيا، واستطرد بعد أن استعاد تماسكه معبرا عن حزنه البالغ قائلاً (ليس لكوني رئيسا ولكن لكوني أباً).
نحن مع السيد أوباما نتضامن معه قلباً وقالباً، ضد قتل النفس البريئة والعنف والتطرف والإرهاب، لكن هل ذرفت دمعة الرجل حتى ولو في واحدة من المجازر ضد الفلسطينيين مثلاً في صبرا وشاتيلا وجنين ودير ياسين ومجازر غزة وغيرها، حيث هلك أطفال ونساء وشيوخ بأعداد غفيرة منذ عام 1948 حتى كتابة هذه السطور على يد الدولة العبرية بدعم أمريكي لا حدود له، بالطبع لا وألف لا!!
ثم ونحن نستنكر ونشجب ونتضامن ونقف مع سيد البيت الأبيض ضد كل الجرائم داخل بلاده كما حدث ذلك أيضا وبقوة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية، اليوم فإن الرئيس الأمريكي يرى وعلى مدى أكثر من عامين شعباً عربياً إسلامياً في بلاد الشام يقتل أطفاله الرضع ونساؤه وشيوخه وشبابه ويحرق الشجر والحجر، قتل منه أكثر من (70) ألف إنسان وهو تقدير متواضع فالأعداد أكثر بكثير، ناهيك عن عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين وأعدادهم لم تحصَ بعد، وهجر من أهل سوريا أكثر من مليوني إنسان تفرقوا في الأردن وتركيا ولبنان وغيرها، إضافة إلى مهجري الداخل، وأدخل المعتقلات والسجون أكثر من 250 ألفا من المواطنين السوريين يتعرضون للتعذيب والقهر بل والقتل والفاعل المجرم بشار (الدم) ونظامه الحاقد.
الإدارة الأمريكية تشاهد الدم العربي في سوريا يهدر بفعل الآلة العسكرية الروسية والإيرانية، ولم تحرك ساكنا، وهي نفس الإدارة التي غزت العراق واحتلته ثم قدمته على طبق من ذهب إلى طهران لتكون إيران حلفها الإيراني - العراقي- السوري- حزب الله في بلاد الأرز، فغلطت الإدارة الأمريكية وكما يقولون (غلطة الشاطر بعشرة) فاستطاعت إيران أن تبتلع العراق المالكي وتضع يدها على سوريا، ومن خلال ذراعها حزب الله في لبنان استطاعت أن تسيطر على كل جنوب لبنان وتمد ذلك الحزب بكل أنواع الأسلحة حتى أصبح يطمح لحكم ذلك البلد.
عبور طهران إلى لبنان لم يأتِ من فراغ بل من قاعدة (صلبة) هي سوريا، فنظام مجرم سوريا هو حلقة الوصل بعد أن أصبح جزءاً رئيساً في نظام خامنئي يتلقى الأوامر والنواهي من ذلك البلد حتى ارتبط نظامه السياسي والثقافي والاقتصادي والمذهبي بشكل عضوي بانتمائه إلى المذهب الشيعي جملة وتفصيلا.
ما يحدث اليوم من جرائم ترتكب على أرض الشام بطلها النظام الصفوي الذي أصبح مسيطرا على عقل وتفكير جزار سوريا الذي سار على نهج أبيه (مصاص الدماء) الذي حول حماة إلى (محرقة) للسنة في عهده، ليعيد الابن (العلوي) تاريخ والده الدموي، لكن بمباركة صفوية تطمح لإمبراطورية فارسية، وبدعم عسكري وإستراتيجي روسي غير محدود على الأرض وفي الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فتحولت سوريا إلى تقاسم نفوذ، أمريكا تغض الطرف عن أفعال روسيا وقاعدتها في (طرطوس) وتدمير سوريا وتقطيعها إلى أجزاء، مقابل سكوت روسيا عن الدعم الأمريكي اللا محدود لإسرائيل لتغتال أهل فلسطين وتطبق على القدس عاصمة لها.
إذا لعبة المصالح وتقاسم النفوذ ترفع رأسها عاليا بين الدول الكبرى ومعها إيران التي فتح لها الباب على مصراعيه، لتصبح لها اليد الطولى في العراق وسوريا وجزء كبير من لبنان عبر جناحها حزب الله، كل ذلك ضد مصالح العرب وخدمة للدولة العبرية التي تحتل فلسطين والقدس وبعض أراضي العرب في سوريا التي باع (جولانها) الأسد الهالك إلى إسرائيل، وإيران التي تحتل الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى.
وإذا كانت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوربي قد حسمت المعركة لصالح ثوار ليبيا ضد القذافي وأسقطت نظام صدام حسين لصالح إيران، وكل تلك التدخلات الجريئة كانت رغم أنف روسيا، فإن حالة سوريا تختلف فالإدارة الأمريكية ترى في تمزيق هذا البلد مصلحة واضحة لأمن إسرائيل، كما أنها رأت في إسقاط نظام صدام وتقطيع أوصال جيشه فيه هو الآخر تحقيق لأمن إسرائيل الذي تعتبره الإدارة الأمريكية امتداد طبيعي لأمنها.
في هذا المناخ الدولي الذي عادت روسيا بقيادة القيصر بوتن إلى ممارسة لعبة النفوذ الدولي وتقاسمها مع الولايات المتحدة القطب الأوحد اليوم، أصبح الشعب السوري الصامد المجاهد بين مطرقة روسيا وإيران وسندان الولايات المتحدة، فعاث النظام السوري الدكتاتوري قتلاً وتشريداً في أهل الشام ليعانوا رحلة طويلة من القتل والآلام والسقام والجراح والتهجير والتعذيب حتى أصبح مصابهم جلل وكارثتهم أفدح بكثير مما عانوه في عهد الاستعمار!!
كل الجرائم التي ارتكبها سفاح سوريا وزمرة نظامه وردت في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وجرمتها، ناهيك أن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، والبروتوكول الاختياري لعام 1999 الملحق باتفاقية لاهاي 1954 واتفاقية حقوق الطفل 1989، كل تلك الاتفاقيات وغيرها المحرمة قطعا ارتكاب كل أنواع الجرائم لم يعرها مجرم سوريا لحظة انتباه فارتكب مذابح يهتز لها كل ضمير حي، فقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ دمر البنية التحتية للبلاد، حطم قواعد الاقتصاد وأنهى عملة ذلك البلد المغلوب على أمره وبدا وكأنه لا اقتصاد ولا استثمار ولا ميزانية، وإنما تحويل البلاد إلى سلب ونهب وحرب أهلية ضروس لا تبقي ولا تذر من أجل بقاء المجرم على رأس السلطة. لم يعترف النظام السوري بنظام محكمة الجنايات الدولية، فارتكب جرائمه غير المسبوقة في التاريخ الإنساني بأسلحة روسية وإيرانية ومنها أسلحة فتاكة (فسفورية) تحدث حروقا وعاهات تستمر لزمن طويل تلقيها الطائرات المتطورة (ميج 29) وغيرها بل إن المجرم استعمل ويستعمل صواريخ سكود ضد المدنيين مدعومة بالدبابات وقاذفات الصواريخ وغيرها من الأسلحة المتطورة، وكل جرائمه ضد السوريين تصنف بأنها جرائم حرب، جرائم إبادة، جرائم ضد الإنسانية، جرائم تهجير السكان من ديارهم إلى دول مجاورة وغير مجاورة وفي الداخل، جرائم كبت الحريات والتجويع، جرائم مهاجمة المدنيين، جرائم تمييز عنصري (العلوي) على السني، بل وفرض التشيع.. الخ.
المادة الخامسة من قانون المحكمة الجنائية الدولية حددت الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمواد السادسة والسابعة والثامنة شرحت تفصيلا المفهوم القانوني لجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتهجير والتعذيب وغيرها من الجرائم، وتلك الجرائم لا تسقط بالتقادم ضد من ارتكبوها، والسوريين من المعارضة والمرصد السوري لحقوق الإنسان لديهم المستندات والوثائق القانونية الدامغة التي تدين هذه الشرذمة من الجزارين المجرمين. وفي ظل هذا المناخ المزري الذي يشهد صمتا دوليا غير مسبوق إزاء ما يتعرض له السوريين من مجازر رهيبة على يد النظام السوري الفاشي، انعقد مؤتمر أصدقاء سوريا في العاصمة الإيطالية روما الخميس الماضي شاركت فيه (11) دولة امتدادا للمؤتمرات التي عقدت في كل من الإمارات، تونس، استنبول، مراكش، باريس، تلك المؤتمرات ومعها مبادرة الجامعة العربية والأمم المتحدة لم توقف نزيف دماء السوريين الغالية ولم تتجاوز توصيات المؤتمر الأخير تقديم الدعم السياسي والمادي للمعارضة على تواضعه وهذا يترك الحبل على الغارب لثعلب سوريا للسير قدما في سفك الدماء الطاهرة وتدمير البلاد وقتل العباد.
وإذا كان العرب لم يهبوا لنصرة إخوانهم في سوريا، فإن من أهم واجباتهم اليوم طرق باب المحكمة الجنائية الدولية وهيئات حقوق الإنسان في جنيف، ومتابعة الضغط على روسيا وإيران من خلال الأمم المتحدة ومجلس أمنها وهذا أقل ما يقدمه العرب من خلال الدبلوماسية الناعمة لإخوانهم أهل الشام حتى لا يكتب التاريخ ان العرب خذلوهم لأن التاريخ عبر ودروس وهو لا يرحم.
dreidaljhani@hotmail.comرئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية