ليلة ولا كل الليالي يوم الاثنين الماضي وأنا أعبر طريق أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جنوبا مخترقا مطار الرياض القديم وكأني أعود إلى أزمنة رياض ما قبل الطفرة الاقتصادية الأولى 1395هـ- 1975م حين كانت الرياض قبل أن تكتسي بالمباني فضاء من أرض رسوبية وصخور كلسيه وتجاويف وكهوف غائرة و(دحول) في باطن الأرض, أعادني فتح طريقي أبو بكر وامتداد العروبة عبر مطار الرياض إلى ذاكرة منسية وأوراق من دفاتر (نجد القديمة), رحلة تاريخية امتدت إلى أكثر من (40) سنة في أوائل التسعينات الهجرية السبعينيات الميلادية كانت الخطط تبنى بطريقة التفافية لتفادي منطقة المطار مع أن النية تتجه حينها لإنشاء مطار جديد للرياض, لذلك أصبح العمران يدور حول المطار لعدم قدرته على اختراق المطار القديم... التخطيط العمراني تشكل حول المطار القديم مثل (حلقات البصل) دوائر داخل دوائر مما عطل امتدادات الطرق حتى أصبحت القاعدة الجوية حجر زاوية يبدأ التخطيط منها ويعود إليها.
لا أدري كيف حجم الفرحة التي أخذتني لاكتشاف بقايا ذلك التاريخ المنسي في أرض المطار, وكيف انكشفت تضاريس مدينتي التي كنت أجهلها... كيف حرمنا منها طوال (40) سنة وأكثر, كيف تعطلت لغة الكلام والتواصل ما بين طرفي طريق العروبة ومخرج (11), ولغة الوصل ما بين شمال طريق أبو بكر وجنوبه, وكيف عاش الملز وشارع الستين عزلة السنوات عن حي الواحة والمرسلات وصلاح الدين والنزهة ومغرزات والتعاون... في تلك الليلة من ليالي الشبط وسعد الذابح والعقارب وما يسميه أجدادنا (بياع الخبل عباته) تعبيرا على تقلبات الجو المتباينة, فقد خرجنا أنا وجيلي ممن كنا شهودا على التنمية الاقتصادية الأولى لنلتقي بنصفنا الثاني, خرجنا (متدثرين) بالحب والانتماء لهذه الأرض والمدينة, لاستعادة ذاكرة شارع المطار القديم وشارع الستين والملز وشارع العروبة (المنبت) الذي كان يبحث عن نصفه الثاني لأكثر من (40) سنة... خرج جيلنا يكتشف تلك الأرض البكرية أحجار الرياض والتلال الرسوبية وكأنها استعادة لجزء مفقود, لقد كانت لحظة عشق وتوحد لحظة بيئية غامرة بالحنين لبقعة عشنا سنوات طويلة نلتف حولها بيننا وبينها حواجز إسمنتية وأسلاك شائكة وعزلة من القرارات... كانت السيارات والناس تعبر الطريق وتجوب تفريعاته وتستدير مع المخارج والدوارات تطيل النظر وتكشف عن جيوبه المندسة وانحناءاته المنكسرة, تنعطف الناس مع المخارج وتدور في محيطه تبحث عن مفقودها... كان المطار القديم من الأخطاء التخطيطية التي رفعت على الرفوف لسنوات لا مبرر لها والآن يسمح لنا نحن سكان الرياض أن نكتشف تلك البيئة المجهولة بالنسبة لنا لذا اندفعت الناس مساء الاثنين بلا حاجة سوى مشاهدة أطرافها وعصبها وطرقها التي عاشت لسنوات تلتف من حولها...
الرياض الآن تتنفس برئة جديدة بعد أن كادت تختنق، وتخمد أنفاسها
ويتلاشى صوتها بالطرق الخانقة والمخارج التي غصت بالناس والسيارات.