الاقتصاد الصناعي اقتصاد حديث نسبياً. فقد كانت الاقتصادات إما رعوية أو زراعية مع شيء من التجارة وغنائم الحرب. فكانت الاقطاعية هو التنظيم الغالب عليها. ولذا جاءت نصوص الشريعة تفصيلية في تنظيم هذه الاقتصادات (بالزكاة والبيوع والخراج) وفي تفتيت الاقطاعية (بالميراث). بينما تركت المستجدات التي كانت في علم غيب الله أنها ستاتي -كالاقتصاد الصناعي- والأنظمة الأفضل لتنظيمه، تحت القياس بعلل صحيحة على بعض هذه النصوص التفصيلية، أو تُركت لما يراه الناس صالحا لهم تحت أصل البراءة الأصلية بالحل. كما هو الوضع في تعامل الإسلام مع النظام السياسي، حيث عفا الله عنه بتركه على أصل البراءة الأصلية.
وكما وضحت في مقالي الأسبوع الماضي «التوزيع العادل للثروة»، بأن تشتيت الثروة وتفريقها في الاقتصاد الزراعي والرعوي هو من عدالة توزيع الثروات على عكس الاقتصاد الصناعي. فلا وجود لاقتصاد انتاجي صناعي متطور دون تكتل للثروة في قلة قليلة من المجتمع. وبفطرة البشر المتطلعة لعدالة توزيع الثروات وكراهيتهم للنظام الإقطاعي، ظهرت الرأسمالية والاشتراكية -في ظل ظهور اقتصاد صناعي من لوازم نجاحه تكتل الثروة- كنظامين اقتصاديين بديلين للنظام الإقطاعي.
جوهر الرأسمالية هو حرية الأسواق والأموال وعدم تدخل الدولة، فكانت الديمقراطية نتيجة حتمية كنظام سياسي انتخابي من أجل نجاح الرأسمالية. فضبطت السياسية الديمقراطية نظام الرأسمالية الاقتصادي بالضرائب المتصاعدة وبالإعانات المتنازلة وبتجريد الدولة من الملكية لإبعاد شبح الدكتاتورية عنها، فلا يكون لها نفوذ مطلق باجتماع قوة الحكومة وقوة الاقتصاد.
وأما جوهر الاشتراكية فعلى نقيض ذلك، فقد جاءت بتقييد الأسواق والأموال والتخطيط المركزي وإعطاء الملكية الكاملة للدولة. فجاءت الديكتاتورية ففرضتها بالحديد والنار. وأما المسلمون فقد ضاعوا بين النظامين بسبب تخلف مجتمعاتهم عن الصناعة وبسبب تبعيتهم للفقهاء المقلدين للقرون الماضية الذي كانت تدور الفتوى فيه حول النظام الإقطاعي الذي كان قد أوجده الاقتصاد الزراعي والرعوي.
اقتصادنا، اقتصاد بترولي تحكمه الأنظمة الثلاثة، الرأسمالية والاشتراكية والإقطاعية. فهو رأسمالي لأنه أقر الملكية وحرية الأسواق التي حفظها الإسلام. وهو اشتراكي لتدخل الدولة وتحكمها في النظام الاقتصادي بالتخطيط المركزي ولملكيتها الواسعة في الاقتصاد. (وسبب ذلك هو بساطة المجتمع عند ظهور البترول وتخلفه عن الحياة المدنية الحديثة فكان لا بد للدولة بأن تدير الأمور).
وكون اقتصادنا بتروليا يجعله استراتيجيا في مرتبة أقل مرتبة من الاقتصاد الصناعي ومن الاقتصاد الريعي. فالصناعي ينمو كماَ ونوعا، والريعي ثابت، وأما البترولي فهو في تناقص مستمر. والاقتصاد البترولي يحفز الترف وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج لعدم وجود فرص استثمارية لها بالداخل. كما يحفز غلاء الضروريات المحلية لانصراف ما تبقى من الأموال في المزاحمة والمضاربة على هذه الضروريات. كما قد يحفز الاقتصاد البترولي الفساد الإداري والاجتماعي ويخلق الاتكالية الإنتاجية.
وبكون اقتصادنا اقتصادا رأسماليا محكوما بالتخطيط المركزي فقد جعله يسمح بتراكم الثروات - لكونه رأسمالي- دون فرض الضرائب عليها بسبب التخطيط المركزي الذي يخلق الاتكالية الكاملة على الدولة في توزيع الثروات.
وبسبب التخطيط المركزي فقد أصبحت الدولة -بجانب النفط- تملك أحقية الإدارة لغالب القطاع الخاص عن طريق تعيين مجالس الإدارة في الشركات لامتلاكها لكثير من أسهمها. ولا يخفى على أحد ما في هذا من خطأ إداري وانتاجي. (وحل هذا سهل بأن تجعل أسهمها أسهما ممتازة كما فعلت الحكومة الأمريكية عند تدخلها لإنقاذ الشركات والبنوك). فالنظام الاقتصادي عندنا بالجملة هو نظام اشتراكي يسمح بالملكية الفردية.
وبسبب تجمد الفقه على فقه القرون الماضية الذي كان يتعامل مع تنظيم نظام إقطاعي، شُرعت الأنظمة لحماية هذا الوضع. فها هي الزكاة والضرائب تُفرض على المنتجين من أفراد المجتمع -كالشركات الصناعية والتجارية- دون الإقطاعيين كملاك الأراضي ودون البنوك التي لا تدفع الفوائد ودون المحتكرين للأموال في البنوك الذين حصلوا عليها من غير انتاجية تشغيلية للاقتصاد المحلي. وها هي ضريبة التقاعد تُفرض بالتساوي على الفقير والغني. وها هي الخدمات والإعانات، اصبحت إعانات تصاعدية حتمية بسبب فرضها للعموم دون تمييز فيستفيد منها الغني أكثر من الفقير.
وإجابة لتساؤلي في مقالي في الأسبوع الماضي «التوزيع العادل للثروة»، فان اقتصادنا لا يختلف من حيث توزيع الثروات عن اقتصاد أمريكا والدول المتقدمة. فالثروات تتركز في قلة قليلة من افراد المجتمع، ولكن مع الفارق المؤثر الكبير في الحاجة الداعية إلى ذلك، وفي دور هذه القلة في نمو الاقتصاد ورفاهية المجتمع أو الإضرار به وإفقاره.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem