يقول باحثٌ في التطوع: إنّه ينتقل من جيلٍ إلى جيلٍ كجزءٍ من التقاليد، والمتأمِّل في تاريخنا العربي والإسلامي يجد أنّ مكانة التطوع ترتبط دائمًا بالقيادة، حتَّى جرى المثلُ السيارُ: خادم القوم سيّدهم.

وبالرغم من كل الإرث التاريخي الذي نملكه فإنَّ التطوعَ كطاقة مجتمعية فعَّالة ما تزال تراوح مكانَها تشريعًا وممارسةً وابتكارًا. قبل أيام قلائل زارني في المكتب أحد صحفيي «الجزيرة» النابهين وهو الزميل خالد الروقي من مكتب عنيزة، قدَّم لي خالد دعوة كريمة لزيارة مدينة عنيزة.. سألته مازحًا: أيُّ برنامجٍ سياحيٍّ ستعدّه لي في هذه الزيارة، فردَّ سريعًا: سأطلعك على تجربة تفخر بها عنيزة تتجاوز التنوّع والثَّراء الذي تملكه، توقعت أن الرَّجلَ يتحدثُ عن موقعٍ تاريخيٍّ أو طبيعيٍّ، فقال الرَّجلُ: لن أريك ماضي المدينة بل مستقبلها!

كان الشابُ المبتسمُ والهادئُ يتحدث عن نادٍ تطوعيٍّ يقدم برامج تطوعية غير تقليدية، سرد لي منها الكثير، غير أن الذي استوقفني منها جميعًا، «حلقات العلوم»، يقول خالد: إن القائمين على المركز رأوا أنّ المسجد يتجاوز دورُه الدينيُّ والروحيُّ إلى أن يكون منصةً لدعم العلوم والمعارف وألا يقتصر على حلقات «تحفيظ القرآن الكريم» فقط -رغم أهمَّيتها-، وقد طرح البرنامج بفكرة استحداث حلقات للعلوم التطبيقية في المساجد تدرّس الرياضيات والعلوم والأحياء والأدب، وقد انضمّ إلى البرنامج معلِّمون ومُتخصِّصون في جميع المجالات ليقوموا بالتدريس في تلك الحلقات في المساجد، وتشهد تفاعلاً جيّدًا من الطُّلاب والدَّارسين.

استوقفتني كثيرًا تجربة «حلقات الرياضيات»، وهذا الإيمان العميق بدور المسجد والانطلاق به إلى آفاق كان يقوم بها في السابق ليكون منارةً للعلم والعلماء، والحقيقة أني لم أزر هذا المركز ولم التق بأيِّ من القائمين عليه سوى هذا الشاب المتحمس والمؤمن بعمق بأهمية التطوع عمومًا ورسالة المركز خصوصًا.. كم شابًا مثل خالد في مجتمعنا ينتظر فرصة التطوع والمشاركة لبناء وطنه ومساعدة أبنائه؟ وكم من مركزٍ يحتاجه مجتمعنا مثل مركز مروءة في عنيزة ليقدم برامج نوعية لخدمة المجتمع وتأهيل أبنائه... سؤال أتركه لِمَنْ يفترض به أن يَدْرس واقعنا ويستخلص منه النتائج وكيف توَّقف التطوع في ثقافتنا ليصبح من يمارسه استثناء لا قاعدة!