وحين كثرت التجمعات، والاعتصامات، والمخالفات الأمنيَّة، والرسائل الأسرية، والبيانات، غير المبررة، وغير المشروعة، وتلقفها الإعلام الفضائحي المناوئ، وبدأت التحرّكات المشبوهة من أعداء البلاد بالتحريض على حمل السلاح،
وفرض الإرادة بالقوة، كان لزامًا على كلِّ مقتدر مبادرة الظَّاهِرَة لإجهاضها. ولأني مواطن يهمني أمن وطني، وسمعة بلدي، أحسست أن من واجبي أن أخرج عن صمتي، وأبوح بتذمري، كي يعلم الجميع أنني مع الأمن، والاستقرار، والعدل، واحترام حقوق المواطن، وتنفيذ مقتضيات البيعة الإسلاميَّة. وحسم الفوضى، مهما كانت مبرراتها، وحيثياتها، إِذْ لم نَعُدْ نحتمل شماتة الأعداء الذين يحسدون النَّاس على ما آتاهم الله من فضله.
وفي الوقت نفسه أتحفظ على الذين يتهمون المتظاهرين بأنّهم إخوانيون، أو قاعديون، أو إرهابيون؛ فالخطأ لا يبرر الخطأ، والمقدمات الخاطئة تُؤدِّي في النهاية إلى نتائج خاطئة، والولاء الحقيقي، يقتضي الصِّدق لا التصديق.
فالمتجمعون، والمعتصمون، يطالبون بحقوق، يعتقدون أنّها مهدورة. وممارساتهم تلك خاطئة، وليست موفّقة، ولا نقرهم عليها. ولكننا في الوقت نفسه، لا نمضي مع الذين يُهوِّلون الأمر، ويزعمون أن هؤلاء من فلول القاعدة، أو من بقايا الإرهاب. فهذه الرَّؤَى والتصورات، يطير بها الأعداء، وتحفزهم على إذكاء نار الفتنة، كما أن مثل هذا الإجحاف يقدح في مصداقية أجهزة الأمن، التي تدعي القضاء على الإرهاب، والإرهابيين.
ذلك أن الإرهابيين لا يَبْدون للعيان، ولا يتصدون لرجال الأمن بكلمات، لا تتعدى المطالبة بالإفراج عن الموقوفين. ونحن هنا لا نستبعد أن يندس فيهم من له أهداف دفينة، وقد يحرّكهم كذلك من هو قاعديٌّ، أو إرهابيٌّ، كل ذلك متوقع. والأجهزة الأمنيَّة، والرقابية ليست من الغباء، بحيث تتشابه عليها الأمور، ولو أن المتظاهرين من القاعدة، أو من فلول الإرهاب، لما أتاحت لهم أجهزة الأمن فرصة التفرق، والعودة إلى منازلهم، دون أن تتعرف عليهم. ولمَّا لم يتفرَّقوا اضطرت قوات الأمن إلى اعتقالهم، حتَّى إذا انفَضَّ سامرُ المتفرجين، أخْلَتْ سبيلهم، دون محاكمة، أو محكومية.
فهل يُعْقَل أن يوصفوا بالإرهاب، ثمَّ لا يُتحفظ عليهم؟ علمًا بأن أجهزة الأمن تبذل كل ما تستطيع للقبض على الإرهابيين الهاربين، والبحث عن المختفين منهم، ولديها قوائم، تزيد، وتنقص. إن هؤلاء المتجمعين، لم ينقضوا البيعة، ولكنهم أخلّوا بمحققاتها، ولم يكونوا من الإرهابيين، وإن طالب بعضهم بالإفراج عن كل الموقوفين، دون استثناء، مع أن من بين الموقوفين من هو ضالع في الإرهاب.
وما قيل من تأييدٍ، أو حثٍّ لهم من قبل فلول الإرهاب في [اليمن]، أو من أعداء الأمة: السافرين، أو المتقنعين، إن هو إلا سرقة مكشوفة لهذه الظَّاهِرَة غير السوية، والمحصورة بعدد قليل.
لقد طار الأعداء بها فرحًا، وعزَّز بها أصحاب القراءات الخاطئة قراءاتهم، بحيث جنحوا إلى التصنيف، والاستعداء، وأخذ المقيم بالظاعن.
بعد هذه التصرَّفات المؤذية لمشاعرنا، ذهبت مع مجموعة من [أعيان بريدة] لمقابلة المسؤول الأول في المنطقة، لإبداء استيائنا، لما حصل، وفي الوقت نفسه الرَّغبة في الإسراع بالبت في شأن الموقوفين، الذين تباطأ القضاء في إنهاء قضاياهم، وردم بؤر التوتر، وقطع الطَّريق أمام المغرضين. وبعد نشر الخبر في بعض المواقع، سيئت وجوه البعض، وحُمِّلنا ما لا نحتمل، على حدِّ المثل العامي: - [لا بُدَّ للحجَّاز من ضربة عصا].
لقد انهالت الاتهامات من نكرات، لا تدري أين تكمن مصلحة الوطن؟ ولست معنيًّا، ولا مهتمًا بما يقال، لأنّه زبدٌ يذهب جفاء، فالمعتصمون والمجتمعون شرعوا لأنفسهم ما لم تأذن به مصلحة الوطن، ونحن سعينا لإصلاح ذات البين، وتهدئة الأمور، وفك الاشتباك، ولم نذهب مستعدين، ولا محرضين. ولا معتذرين، ولا متعهدين، وإنما نحن مستاءون مما حصل، متمنون معالجة الموقف، مستنهضون لهمم المسؤولين لحسم ملف الموقوفين الذي أصبح مناطًا لِكُلِّ من هبّ ودبّ.
وأجهزة الأمن بِكلِّ ما عليه من متابعة دقيقة، ورصد أمين، أدرى بواجباتها، وأحرص على سلامة ممارساتها. وكم يتمنى المهتم بأمر أمَّته ألا يحصل شيء يُعكِّر صفو الأمن والاستقرار. فالزمن موبوء، والمناعة ضعيفة، والمتربصون يأتون المثمنات والمكتسبات الوطنيَّة من قواعدها، ويلتفون على أشيائنا مثلما يأتي الشَّيطان من بين الأيدي ومن الخلف.
لقد سيء فهمنا، ولم تقدّر مبادرتنا، ولن نزيد في ردة الفعل على قول الرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، حين آذاه قومه: [اللهم أهد قومي فإنّهم لا يعلمون].
إن من واجب كل مواطن مقتدر مبادرة الأزمات، وفك الاشتباكات، والحيلولة دون التصعيد، فالوطن في النهاية سفينة تمخر عباب الفتن، وحين تغلبها الأمواج العاتية، يغرق الجميع، الصالح، والطالح، والمحسن، والمسيء: {وَاتَّقوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال: 25] فلا أقل من أن يَتمَّعر وجه المواطن من أجل الحق، ليكون له عملٌ يتوسّل به أمام الشدائد، فمن غلَّب السَّلامة، ودَّسَ رأسه في التراب، استحكمت بين يديه حلقات المشكلات، وأصابه دخن الفتن.
والمغرِّدون، والكتَّاب المتنكرون أسوأ حالاً، وأشدُّ خطرًا من الذين يعلنون آراءهم، وإن كانت خاطئة، فهؤلاء كالخطائين، وأولئك كالمنافقين. وما أقرؤه، وأسمعه، في سائر وسائل الاتِّصال، وما أشاهده على الأرض، لا يبشر بخير، وحتى الذين اهتاجوا عُزْلاً، وتدفقت حماستهم الفارغة عبر أنهر الصحف، يسيئون من حيث يريدون الإحسان، فمن أراد الإصلاح فإنَّ عليه تَجْسِير الفجوات، والتقريب بين وجهات النظر، ولا سيما أن المتربّصين والماكرين والكائدين يودّون أن نغفل عن ثنياتنا، فيميلوا علينا ميلة واحدة. فالذين يُبْدون اعتراضهم، ويُخْطِئون في تصور المشكلات، يسهمون في التصعيد. فالخطأ لا يبرر الخطأ، والحكومة بأجهزتها الأمنيَّة والرقابية تودُّ من كل مواطن أن يقول خيرًا أو ليصمت. ومن أوغل في الذم، وشط في الاتهام، وأسرع في التصنيف، وأسرف في الاستعداء، حال دون الحلول المتوخَّاة من الدولة، ومن المجتهدين الناصحين الذين يسعون لتأليف القلوب، وفتح صفحة جديدة، تعيد المغردين خارج السرب إلى سِرْبهم.
وفي النهاية فإنّه لا مزايدة على الأمن، والإيمان، والاستقرار، ومحققات البيعة الإسلاميَّة، والتفريق بين المطالبة المشروعة، والمواجهة المحظورة.
ورجل مثلي نَيّف على السبعين، لا يمكن أن تأخذه في الحقِّ لومة لائم، ولا يمكن أن يختار إحباط عمله، ولا يمكن أن يُعين ظالمًا على ظلمه من كل الأطراف. ولا سيما أنّه حُرُّ في القول، وفي الصمت، وكل الذي يتطلَّع إليه رجل مثلي الجنوح إلى السَّلام، وخيار الحلم والرِّفق والأناة والاحتواء، أو التحييد على الأقل، وتجنَّب الإثارة. فالفتن نائمة، وملعون على كلّ لسان من أيقظها. وبلادنا بلاد المقدسات والخيرات مستهدفةٌ من شرار الخلق، وعلينا الحيلولة دون نفاذ المكائد، وقطع الطَّريق على المشبوهين. فالخاسر من لم يُوْعظ بغيره، والأخسرون أعمالاً، من كانوا موعظة لغيرهم.
وعلى الذين يظنون أنهَّم ظُلموا، أن يأتوا البيوت من أبوابها، وألا يخرقوا السَّفينة العائمة فوق ظلمات الفتن، وأن ظَنّوا الإبطاء في الاستجابة، فليصبروا وليصابروا وليرابطوا عند أبواب المسؤولين، فلن يضيع حق وراءه مطالب. ولأننا لم نعهد هذه الممارسات في إبداء الرأي، وإعلان المواقف فإننا نظل ننكرها، ونبرأ إلى الله منها، ومثلما نقف ضد هذه الممارسات غير السوية، فإننا في الوقت نفسه نقف ضد القراءات الخاطئة للأحداث، ومواجهة الساعين للإصلاح غير المُسَدَّدِ بأعنف الاتهامات. إن من الإصلاحيين من يباهي بإصلاحه، ويصرّ على أن قوله الفصل، ويسعى لتشكيل جماعات الضغط، ولا يمانع من تحويل الحوار إلى صراع، وهذا ضرره أكبر من نفعه، وآخرون من المصلحين يصادمون الواقع، ويُحَمِّلُون المسؤول فوق ما يحتمل، وكل ذلك يحول دون خيار الرفق.
لقد كثر المزايدون والانتهازيون والمتهافتون على أجهزة الإعلام، لإعلان المواقف البطولية، أو الوطنيَّة، وكان بالإمكان أن يجعلوا ممارستهم تلك كالصدقات، التي لا تدري شمائلهم ما تنفق أيمانهم، فالناصحون والمخلصون يُسِرُّون القول. وعلينا جميعًا أن نفرق بين نصيحة المشفق وتعيير الشامت.
ولهذا فإننا ضد الكتبة التصعيديين، الذين يزيدون الاحتقان، ويغرون على الإصرار والعناد، وضد الذين يطيرون فرحًا بالشائعات، وافتراء الكذب، ومع المحسنين الظن، ومع التوفيقيين الذين يستلُّون الضغائن، كما تسلّ الشعرة من العجين، ويفتحون باب الأمل للخطَّائين. ولله المثل الأعلى، فهو جلّ وعلا، يبسط يده في اللَّيل ليتوب مُسِيء النهار، ويفرح بتوبة عبده فرح أحدنا بعودة راحلته، ونحن ضد مدعي الإصلاح الذين يباهون بأقوالهم، ونؤكد أننا بأمس الحاجة إلى الإصلاح المتوازن، بِكلِّ شموليته، وتجذره. وعلى الأمة حكامًا ومحكومين أن يصلحوا ذات بينهم، وأن يَحوُلوا دون نفاذ الأعداء المتربصين، فالزمن الموبوء لا يحتمل مزيدًا من الفتن. فالمتظاهرون مخالفون، والكتبة المحرضون مخالفون، والمصلحون المُصَعِّدون للمشكلات مخالفون.
ومِنْ ثمَّ فلست مع هؤلاء، بل مع قول الشاعر الحكيم:
[تَرَفَّقْ أيها المولى عليهم
فإن الرِّفق بالجاني عقاب]