(العقل العربي تعوّد على لغة الحكاية ولم يتربَّ على اللغة البصرية التي هي ثاني لغة يتعلمها الإنسان بعد السمع، لكن وللأسف التربية توجه العقل باتجاه إهمال لغة البصر عند الإنسان ومن هنا نعيش إشكالية الحوار بين اللوحة والمتلقي).
آرام خالد - تشكيلي ألماني من أصل سوري مقيم في باريس. من هنا يتأكَّد لنا أننا استطعنا التعريف عن أنفسنا بلغة السمع ولا نعرف، حتى الآن بشكلٍ دقيق كيف يعرف بنفسه من لغته البصر؟
التصوير أداة القرآن المفضَّلة، كتصوير اللون وتصوير الحركة وتصوير التخيل وتصوير تناغم الكلمات فيه.
القرآن الكريم كان دقيقاً في ذكر الألوان حسب الحال النفسية التي تظهر على المتلقي باستخدامها في موضعها الطبيعي. على ذلك استدلت عدة بحوث وأشارت إلى أن الألوان التي ذكرت في القرآن الكريم هي الألوان الأساسية فقط سواء الضوئية منها أو الصبغات وهي: الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر، وهذه الألوان الأربعة هي التي تتفرَّع منها كل الألوان الموجودة في الوجود.
بل إن مجموع الآيات التي ذكرت فيها الألوان الأساسية يساوي مجموع الآيات التي ذكر فيها المحايدات وهي الأبيض والأسود، فهل هي إشارة من القرآن الكريم إلى ما توصل إليه العلم في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أي بعد ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً من نزوله، إلى أن مجموع الألوان الأساسية يساوي الأبيض والأسود؟
اللون طاقة مشعّة إحساس بصري لا وجود له خارج الجهاز العصبي للكائن الحي، ومعناه عند المصورين والمشتغلين بأعمال الرسم والتشكيل والصباغة وهم يقصدون به مواد التلوين يختلف عن معناه عند علماء الطبيعة ذلك الذي يتضح نتيجة الضوء تحليله أو طول موجته وإن كانا وجهين لعملة واحدة. وبعد أن كانت مواد الفنان التشكيلي طبيعية: تربة، حيوانية ونباتية البدائية والضعيفة انتقل منها إلى المواد والألوان المصنّع منها المساحيق والصبغات الكيميائية. قال تعالى: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (سورة النحل آية: 13). كما توصل العلماء إلى أن موجات اللون تؤثّر في أفكار الإنسان وفي حركاته الجسمية. وأهم فن اهتم بتطوير الألوان والمساحيق خدمة للإنسان للروح الإنسانية: هي الفنون التشكيلية. وبالنسبة للفظ اللون ومشتقاته جاء في 7 آيات في القرآن، ولا يقصد بها دائماً مادة اللون “كما ذكر الطبري” أنه قد يراد باللون الأصناف والأشكال والأجناس والطعم. ويرى الباحثون أن نظرية اللون تجلّت في قوله تعالى: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) (سورة فاطر 27). ومن جماليات اللون أن قيمته هو الاسم الذي نطلقه عليه، فالأبيض النهاية العليا للمدى.. والأسود أسفل المدى.. وباقي الألوان بينهما، بل إن دلالة الألوان في القرآن تتضح بناءً على موقعها في الآية ذلك لأن اللون له دلالات نفسية وثقافية ورمزية. فالأبيض: النقاء والجمال والصفاء. الأسود: السوء والقتامة والإعتام. الأصفر: الجدب وقرب الهلاك والمرض. الأخضر: الحياة والنماء والراحة والخصوبة وهو اللون المختار المستثنى في القرآن وقد استخدمه الفراعنة في حفظ المومياوات من التحلّل البكتيري نظراً لدوره في قتل البكتريا والجراثيم، بالإضافة إلى أنه يسكّن الآلام ويقاوم التعب والإنهاك، فيشعر صاحبه بأريحية وسعادة، وهو يشفي من الأمراض الميكروبية. الساحة البصرية للون الأخضر أصغر من الساحات البصرية لباقي الألوان، كما أن طول موجته وسطى فليست بالطويلة كاللون الأحمر وليست بالقصيرة كالأزرق وهو لون إيجابي بنسبة 100% لذا جعله الله من نعيم أهل الجنة وثيابهم. الأزرق الفاتح: لون السماء: يخفف من حدة التوتر والعصبية، لون الحب والرومانسية والارتواء. وللألوان تأثير على مكفوفي البصر تماماً كالمبرين نتيجة لترددات الطاقة التي تتولَّد داخل أجسامهم، وهذه الفكرة استخدمها الصينيون القدماء في علاج الأمراض وتُسمى “بال فينج شوي”. وإن كنت أتساءل كيف يمكن لكفيف أن يتفاعل مع اللوحة التشكيلية؟! والفن التشكيلي فن قبل مجيء الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية كانت العربُ في تلك الرقعة الجغرافية تمارسه بتسميته المعاصرة لأغراضٍ دينيةٍ. وهو إرثٌ تاريخي امتد عبر الحضارات القديمةِ المختلفة مثل الحضارتين السومرية والفرعونية وبالتالي أجمع الباحثون على أن لغة الفن التشكيلي ولغة الدين تتفقان في محاولةِ الوصولِ إلى الجوهرِ الإنساني. وما يحاولُ الفنُّ صنعه في بعض مظاهره هو التعبير عن الانفعالات الإنسانية وتوصيل ما تعجز الكلمات عن البوحِ به وتوصيله وبالتالي فإن القلق التشريعي والديني حيال جواز أو عدم جواز الفن التشكيلي قلق لا قاعدة عقلانية طالما يسهم اللون والرسم والنحت فيما لا تستطيع لغة السمع الإسهام به. بل إن المستشفيات باتت تستعين بالاختصاصيين لاقتراح لون جدران غرف المرضى التي تساعد في تسريع الشفاء. وخير مثال على نتائج اللون والتشكيل والنحت الإيجابية في العلاج التجربة التي تمت في لندن على جسر (بلاك فرايار) الذي يعرف بجسر الانتحار - لأن أغلب حوادث الانتحار تتم من فوقه- حيث تم تغيير لونه الأغبر القاتم إلى اللون الأخضر الجميل مما سبب انخفاض حوادث الانتحار بشكل ملحوظ. فهل نُحسن علاقتنا باللون والرسم والنحت أو يحسن التعليم علاقته به بعد أن وقفنا على حضور اللون ودوره في القرآن، الوقوف الذي يؤكّد القيمة العظيمة للفن التشكيلي في القرآن.
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443Twitter: @HudALMoajil