لسنا بحاجة إلى التذكير بأن العالم في تاريخه المعاصر يمر بمرحلة في غاية الدقة والخطورة بما يشهده من كمٍ هائل من المستجدات والمتغيرات وسلسلة من التحديات اللامتناهية، طالت جميع مناحي الحياة، ولم يسبق له أن شهدها بصورتها الحالية..
ولعل أبرزها وأهمها على الإطلاق هي ظاهرة العولمة التي هي باختصارٍ شديد تطلُّعٌ وتوجه يؤدي إلى إذابة الحدود الفاصلة بين دول العالم، ليس جغرافياً وإنما تطلع لإقامة نظامٍ شامل تتوحد فيه جميع الأنماط من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وتنصهر جميعها في بوتقة واحدة يطلق عليها [القرية الكونية].. شعار براق يدغدغ مشاعر الإنسان الطامح إلى تجاوز الحدود والمسافات واختراق الحدود.. إلا أننا بشيء من التأمل سنجد أن الواقع الفعلي بعيد عن هذا الشعار البراق. تطلع وتوجه لظاهرة العولمة شكَّلا تحدياً غير مسبوق في حياة البشرية.. واتجها نحو منعطفٍ نتلمس من خلاله آثاراً متباينة، تراوحت ما بين إيجابي وسلبي، لامس جميع نواحي الحياة ابتداءً من تحرير رؤوس الأموال والسلع من أي ضوابط تُحد من حركتها إلى التحديات التي تمس السيادة الثقافية لأي مجتمعٍ من المجتمعات.
فإذا كانت العولمة بتخطيها كل الحدود والعوامل الجغرافية لا تعترف بدولة أو وطن، وجاعلة من العالم قرية كونية صغيرة محررة القيود.. فإن تحدياتٍ جسيمة تحدق بمجتمعاتنا العربية من هذه الظاهرة.. ويأتي على رأس هذه التحديات التحديات الثقافية التي تحمل ثقافة مغايرة تماماً لثقافتنا العربية والإسلامية.. خاصة أن هذه الظاهرة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بشكلٍ مباشر بالثورة المعلوماتية الحديثة والثورة التكنولوجية التي جعلت العالم أكثر قرباً واندماجاً وتأثراً بعضه ببعض. لقد تخطت العولمة مجال السياسة والاقتصاد لتدخل إلى خصوصية المجتمعات العربية.. وراحت تروج لأنماطٍ معينة في العلاقات الاجتماعية.. لكن الأخطر من ذلك كله الاختراق الثقافي؛ حيث السيطرة على الإدراك وسلب الوعي والهيمنة الثقافية بفرض ثقافاتٍ معينة؛ ما يشكِّل تحدياً صارخاً لأهم مقومات ثقافة الشعوب التي هي بمنزلة الرصيد الذي أنتجته الحضارة العربية والإسلامية.. وعصارة فكر الأمة عبر تاريخها الطويل.. وأي مساس بها هو مساس بالهوية.
فإذا كانت ظاهرة العولمة تتمتع بمزايا إيجابية متعددة، لا يمكن إنكارها أو التغافل عنها أو حتى رفضها لما حققته من إزالة للتجزئة وإلغاء للمسافات.. وإيجاد نوع من الحوار المتبادل، يؤدي لخلق نوعٍ من التعاون بين الشعوب في مختلف المجالات، إلا أن ذلك لا يبيح لنا عدم مناهضة الكم الهائل من السلبيات التي تختبئ في مفاصل هذه الظاهرة، خاصة فيما يتعلق بثقافة وحضارة الشعوب.. حيث إن أول أهداف العولمة يكمن في هدم الهوية الثقافية والتاريخية للأمة.. وعليه ينبغي ألا ننخدع بثقافات غازية باسم العولمة.. أو نركض خلف شعارات براقة يروج لها المتحكمون بآليات العولمة الثقافية.
إن التعامل العقلاني والموضوعي مع ظاهرة العولمة الثقافية يتطلب عقلية متفتحة وموضوعية بمعنى الكلمة.. وهذا لا يتم إلا بالإقرار بأن المجتمعات العربية والإسلامية قد توقفت تماماً عن الإسهامات الحضارية.. إما لعوامل داخلية كالخضوع لنظم حكم استبدادية أو لعوامل خارجية كالاستعمار.. فلا مراء إذن من الاعتراف بعدم إسهام المنظومة العربية والإسلامية في بناء حضارة اليوم.. ولا مراء أيضاً من الاعتراف بأننا شعوب نتشرب دون تمحيصٍ أو تحليل نتاج وقيم وثقافة الآخر التي لا تمت بأي صلة لقيمنا وأخلاقنا وثقافتنا الإسلامية الأصيلة حتى بات العالم العربي في ظل المؤثرات الخارجية أكثر ضعفاً في مواجهة عولمة ثقافية يتدفق من خلالها رتل متعاظمٌ وهائل لأفكار وقيم وأنماط مختلفة من السلوكيات والثقافات، وذلك عبر الفضائيات والشبكة العنكبوتية، وبأساليب مشوقة ومغرية وأكثر سهولة.
لقد أصبحت العولمة الثقافية تشكِّل تحدياً متعدد الأبعاد ما دامت المجتمعات العربية والإسلامية تعجز عن الوقوف موقف المعارض والمحارب للثقافات الدخيلة.. وتنزع للتقوقع حول الذات دون خشية على لغتها وثقافتها.. ويوماً ما أوضح أحد فلاسفة الغرب المعاصرين محذراً وبشدة من العولمة بشكلها العام قائلاً: «إذا كانت البراءة تظهر في عموميات العولمة فإن الشياطين تختبئ في تفاصيلها».
zakia-hj1@hotmail.comTwitter @2zakia