في العالم اليوم دهور تمر، وأخبار جلّها لا يسر، اقتتال وتدمير، وفلسفة وتنظير، وغياب ذوى الألباب، والبعد عن الأخذ بالأسباب، ففي بعض مناطق عالمنا العربي ما لا يحتاج إلى حديث، فالناس ترى وتسمع، وسيحكم أصحاب البصيرة ويتعظون، ويجتهدون ويقارنون، ويحمد الله على السلامة من سلم، ويدعو لغيره بحسن الحال.
وفي أوربا تتساقط الأوراق الاقتصادية فكانت اليونان، ثم إيرلندا، وإسبانيا، والبرتغال وإيطاليا، وربما فرنسا، أما اليوم فقبرص قد تقدَّمت الصفوف، وأخذت الأم القاسية ألمانيا التي تريد لمن ترعاهم أن يكونوا أكثر اجتهاداً، تسير الأمور حتى تتماسك هذه المجموعة التي كانت نموذجاً يحتذى للعالم، فمشكلة قبرص لها طابع خاص ففيها أموال من روسيا، والله أعلم بمصدرها، ولهذا فقد فرضت قبل إعطاء القروض ضرائب على النقد الموجود في البنوك بما قيمته 5% تقريباً لما دون المائة ألف يورو ونحو 9% لما زاد عن ذلك، رفض الشعب القبرصي هذا الرأي، فتسابق الناس على سحب أرصدتهم من البنوك، حتى اضطرت الحكومة إلى إقفال البنوك.
بريطانيا تراقب الموقف حتى تختار الوقت الذي تعلن فيه استفتاء شعبياً حول بقائها في الاتحاد الأوروبي من عدمه، لكن ذلك في حال نجاحه سيكون بداية إلى انفراط العقد.
دعونا من الكتابة عن الألم لنتطرق إلى الاستمتاع بقصة فاطمة الغرناطية مع ابن قزمان، فقد كانت ظريفة زمانها، أديبة أوانها، جمعت الحسن والظرف والأدب والفقه، وكان لها مجلس بمنزلها تقرئ فيه النحو واللغة والبديع بحضرة جماعة من الطلبة، ولها فكاهات ودعابات. روي أن ابن قزمان الأديب لما دخل مدينة غرناطة لقي فاطمة هذه في بعض الطرقات فأعجبه حسنها، وكان ابن قزمان أسمح أهل زمانه، فسلَّم عليها، فردت عليه السلام ثم قالت له: ما حاجتك؟ قال لها: أنا والله أحبك، قالت له: فإذن فأت معي، فتقدمت وهو على أثرها حتى وصلت إلى حانوت صائغ فقالت له: الحاجة التي كلفتك بها اعملها على مثل هذا، وأرته ابن قزمان، ثم انصرفت فانغمست في الناس فلم يدر أين سلكت، فرجع أبو بكر ابن قزمان إلى الصائغ فقال له: من تكون المرأة التي أتت بي إليك؟ وما الصورة التي تصنع لها على مثالي؟ فقال: أما المرأة فهي أشهر من الشمس، تلك فاطمة الغرناطية، أديبة وقتها وفقيهة النساء في عصرها، وأما الصورة التي طلبت مني فإنها كلفتني أصنع لها صورة عفريت من الفضة فطلبتُ منها مثالاً فأتتني بك، فقال له: صف لي منزلها أعزك الله تعالى، فوصفه له، فأتى المنزل ودق الباب فوقفت له جارية، فقال لها: قولي لسيدتك: رجل من الخواص بالباب، فدخلت الجارية وعرّفتها بمقالته، فأمرتها بدخوله، فدخل وعليه طاشور أصفر مع سماحته فأتى منظره شنيع فاستقبلته وقالت له: يا ابن قزمان، أراك كبقرة بني إسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين فخجل من مقالتها،ثم أردفت إنك ادعيت محبتي لحسني وجمالي، قال لها: نعم، قالت. وأنا أدعي بغضك لقبح صورتك، ثم قالت لجارتها: يا فلانة، ناوليه المرآة ينظر وجهه فيها، فإن رأى أنه أهل لأن يعشق فليفعل، فأخذ المرآة ونظر وجهه وشناعة منظره وقال: صدقت والله يا فاطمة، ثم رمى المرآة من يده وخرج، وهو يقول:
جارية أعجبني حسنها
ومثلها في الناس لم يخلق
خبرتها أني محب لها
فأقبلت تضحك من منطق
فالتفتت نحو فتاة لها
كالرشا الوسنان في قرطق
قالت لها: قولي لهذا الفتى
انظر إلى وجهك ثم اعشق
ووفدت على أمير المؤمنين أبي عبد الله الناصر لدين الله محمد بن يعقوب الموحدي بحضرة مراكش مشتكية في ظلامة جرت عليها، فأقامت ببابه لا تجد سبيلاً إلى الوصول إليه حتى خرج في عيد الفطر إلى المصلى فصاحت به فلم يلتفت إليها، فلما رأت ذلك منه تقدَّمت حتى أخذت بعنان فرسه وقالت: يا أمير المؤمنين، إني (امرأة) مظلومة أتيتك من أقصى جزيرة الأندلس لتنصرني فلم يرد عليها جواباً، فقالت: يا أمير المؤمنين، كلمني فإن الله تعالى قد كلم موسى تكليما، فلما سمع ذلك منها لم يستطع أن يزيد قدماً واحدة وقال لها: ما قصتك؟ فأخبرته، فأمر بإنصافها، وأمر لها بغلل وكسوة، ثم قال لها: بقيت لك حاجة؟ قالت: نعم، ثم أنشأت تقول:
اكتب إلي كتابا
يكون للدهر عده
بخط يمناك فيه
الحمد لله وحده
فلعل حظ قبرص مع ألمانيا يكون مماثلاً لحظ فاطمة الغرناطية مع أبي عبد الله الموحدي ذلك الحاكم المغربي المتوفى عام 610هـ، ولكل أهل زمان طرقهم في قضاء حاجاتهم.