(1)
* سألت ذات يوم صديقاً - يقاسمني عشق الحرف ومعاناته - عن أبرز المواقف التي تعامل معها وأكثرها تأثيراً على مشواره مع الحرف، فتحدث إليّ حديثاً سبقته آهة عميقة اخترقت جدار سمعي كالرعد، قبل أن يقول:
دعني اسمعك بعض ما يختزنه الخاطر عبر السنين، مما له صلة بمعاناة الحرف والكدّ في سبيله بحثاً عن (نعيم) الرضا الداخلي، وسأتبع ذلك بمكاشفة خاصة عن أرق العمل وتحدياته وذاك أمر لا أحسب أنني أنفرد به عن سواي من خلق الله:
* * *
* ثم تابع قائلاً:
لا تخلو يا صديقي أيُّ تجربة عمل في الحياة. من مواقف، بعضُها قاهر، وبعضها مفْتعل، وبعضها يمكن الغلبة عليه. صبراً وجهداً، وآية ذلك رحلةُ (القدوم) إلى الحياة نبدأها بصيحة غارقة في الدموع، لا أدري إن كانت تعني نفوراً من الحياة أم ترحيباً بها! ولو أردتُ أن أُفلسفَ الإجابة على هذا السؤال.. لقلت إن أيَّ عمل - لا تَتَخللّه عقبات.. ولا تواجهه صعوبات، تتضاءل فيه ومعه نشوةُ النجاح، بل تبُور! وإذا كانت النتائجُ تُقاس عادةً بأضدادها، فكيف للمرء أن يُميّزَ بين النجاح وسواه؟
* * *
* وسيرتي الذاتية ليست استثناءً من ذلك.. ففي الكتابة.. يلازمني أبداً هاجسُ الإخفاق في الاقتراب من عقل القارئ ووجدانه، بالفكر السويّ، والأسلوب الماتع، حتى وإن أحرزتُ رضاه أو نجوتُ من غضبه! ويوم تتحوّل الكتابةُ عندي إلى عملٍ رتيبٍ مفرّغ من العناء تسيّره ثقة عمياءٌ تَسْتسْهِل ذكاءَ القارئ وفطنتَه.. فذاك هو اليوم الموعود للكفّ عن الكتابة!!
* * *
* وفي العمل أيضاً.. أعاني عقباتٍ، رغم تعاقب السنين.. وتكاثف الخبرة.. فهناك (عقبةُ) التعامل مع الظروف المالية التي تحدّ من طموح الإدارة، في تطوير آلية العمل، وهناك (عقبة) تنمية حماس وولاء العاملين معي بحثاً عن صيغ أفضل للأداء.. وهناك (عقبة) البحث عن قدرات شابة جديدة مؤهلة نفسياً ومهنياً.. للعمل في بيئة مشحونة بالتحدّي وبالرغبة في النجاح، وتقديم الأفضل!
* * *
* ثم ختم الصديق حديثه رداً على سؤالي، وقد بلغ ذروةً من نشوة الثقة فقال: الحياة صراط غير مستقيم تنتشر على ضفافه العقبات.. منذ أول صرخة يطلقها الوليدُ لحظة تجاوزه محطة الرحم.. حتى آخر لحظة يواجه بها ربَّه! ولولا هذه العقبات.. ما كانت الحياةُ الدنيا زينةً ولا متاعاً!
* * *
* جارَ عليّ ذات مرة جَارُ منزلي في إحدى مدن المملكة، حين طرقت بابه معاتباً لوضعه نفايات من بقايا (الزاد المطبوخ) بمنزله على عتبة منزلي، وقدَّمت له في الوقت نفسه (حزمة) من (أكياس النفايات) خشية أن يكون سبب فعلته، إن كان له من عذر، خلوَّ منزله في تلك اللحظة المشؤمة من ذلك، فكان رده علي قاسياً لا يعادله قسوة سوى فعلته، ثم كتبت فيما بعد مداخلة أوضح من خلالها موقفي من ذلك، حيث قلت:
* إن (تخلُّفَ الحسِّ) شَكلٌ من أشكال التّحوّل الإنساني، وله معَادلةٌ للحل عبر قنوات النمو الأخلاقي والتربوي والسلوكي، أمَّا (أُميةُ التخلف) في الإحَساسِ، فظاهرةٌ من ظواهِرَ المعاناة الإنسانية التي قد لا يسْتجِيبُ صاحبُها لحلٍّ، حتى ولو قُدّم له على طَبق من مَعْدنٍ نفيس!
* * *
* ومَثَلُ ما شَهْدتُه وسمعتُه من ذلك الجَار مَثَلُ منْ يُزيّنُ حائَط مكتبه أو مجلسه بشَهاداتٍ وبراءات سلوك تشْدَه الأبْصَارَ، وعندما تَتَعاملُ معه، تُفْجَعُ بتُلوّثِ إحساسك ألماً وحسرةً معاً، فما كلُّ ما تَراه العَيْن بَهْجةً من أمور البَشَرِ يجسِّدُ ما يخْفُونهُ من تَردٍّ يجْرحُ الإحسَاسَ، لأن بين (ثقافة الإحساس) و(ثقافةِ الحس).. مشواراً طويلاً من العنَاء والمعَانَاةِ، ورحمَ اللهُ امْرأً (تصَالحَ) حسُّه مع إحسَاسِه نُبْلاً وطَهَارةً ونقَاءً في تعامله مع الآخرين!