الحكم على شيء فرع من تصوره، وعبارة اقتصاد المعرفة تعطيك تصوراً جميلاً بأن الاقتصاد يعتمد على العلم والمعرفة، أما عبارة المعرفة القائمة على التجارة فتواجهك بجلافة: المعرفة الحالية تخضع للتجارة! العبارة الأولى إنتاج تجاري أما الثانية فإنتاج فكري..
الأولى تجميلية والأخرى مصارحة!
لكن الذي راج هو تصور العبارة الأولى وصار لها أكبر الأثر في تأسيس طريقة تعاملنا مع الإنترنت.. فكيف تأتى لها ذلك؟
في ستينات القرن العشرين، بدأ يتحوَّل المستقبليون العاملون في وكالة ناسا الأمريكية وما حولها من الاهتمامات العسكرية إلى الاقتصاد وانغمسوا في التجارة، مروجين في كتبهم عن مستقبل مثالي للاقتصاد الرأسمالي. ومن ذلك الكتاب الأكثر إثارة «صدمة المستقبل» لتوفلر.. الذي يوضح أن التغييرات التكنولوجية وقعت بسرعة شديدة لدرجة أن الكثير من الناس أصبح يعاني من ارتباك وتوتر نفسي، بسبب صعوبة التكيف مع سرعة التغيير. كان كتاباً صادماً ومثيراً للمخاوف بشأن التطورات الناجمة عن الابتكارات التكنولوجية. بعد ذلك ظهرت ميكروسوفت في منتصف السبعينيات وطُرح معها أن الكمبيوتر المستقبلي سيغير الحياة الاجتماعية والنفسية، خاصة مع كتاب دانيال بيل «قدوم المجتمع ما بعد الصناعي» الذي جعل من الكمبيوتر معنى يمثل الوجود الإنساني عبر نموذج اقتصادي.
وخارجاً عن السياق البراجماتي الأمريكي صدر عام 1979 للمفكر الفرنسي ليوتار كتابه «حالة ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة»؛ خلاصته أنه عندما تصبح المعرفة عبارة عن معلومات تجمع في الكمبيوتر في بيانات رقمية تحتكرها الشركات الكبرى تصبح قيمتها تجارية وليست عقلية؛ أي بضاعة يمكن نقلها وتخزينها وبيعها وشراءها. يرى ليوتار أن الكومبيوتر نقل موقفنا الفكري بشكل جذري حين تحولت المعرفة إلى بضاعة أو ما أسماه «التتجير» (mercantilization). كذلك لم تعد المعرفة تحاكم في مدى حقيقتها بل كيف يمكنها خدمة غاية معينة. وعندما نتوقف عن السؤال المعرفي «هل هذا حقيقي؟» ونستعيض عنه بسؤال «كيف يمكن بيعه؟»، فإن المعرفة تتحول إلى بضاعة.
لم يلتفت المستقبليون الأمريكان لهذا التنظير الفكري، لأنه لا يمكن بيعه! ومن هنا تابع توفلر نظريته المستقبلية مصدرا كتابه «الموجة الثالثة» عام 1980، لكنه على نقيض كتابه الأول المتشائم كان متفائلا! ربما لأن التفاؤل يمكن بيعه! إنما ما أذهل المراقبين أن كثيراً من توقعاته تحقق فعلاً مما جعل كتابه هذا أشهر كتاب مستقبلي على الإطلاق. وقد قوبلت أطروحة المستقبلية التي توقعت الثورة التقنية باحتفاء غير نقدي، وأطلق عليها الثورة الرقمية والإلكترونية.. ثورة المعلومات والاتصال... وأهم الخصائص لحضارة الموجة الثالثة هي أنها عصر المعلومات واقتصاد المعرفة.
في عام 1985 اعتبر ستيوارت براند (مخترع نظام التداول الكمبيوتري) ومجموعته «ول» أن الشبكة العنكبوتية ستسقط الحدود بين الشأنين العام والخاص، وستعطي قيما وتفسيرات جديدة.. وأن المستخدمين لشبكته سيتأقلمون مع تحويل خصوصياتهم إلى وحدات إنتاج ودخل متبادل.. فكل عبارة حميمية يرقد خلفها إعلان ذاتي هي عبارة عن مناقصة ربحية للاتصال.. وهذا نشر ثقافة في التعامل مع الإنترنت في بداياته..
في التسعينات راجت كتب تمجد أفكار توفلر التجارية باسم الديمقراطية والحرية وحق الوصول للمعلومات. فقد مجَّد المفكر المسقبلي كيفن كيلي بالإنترنت التجاري، ذاكراً أنه لن يعود هناك تمييز واضح بين الواقع والصورة، بين الحقيقي والوهمي بل سيحدث تهجين بينهما. وعلى ذات الطريق مضى ديفيد بروك صاحب الكتاب الأكثر مبيعا عام 2000 وكذلك مجموعة «ول» التي شكلت قوة في ثقافة الإنترنت تؤمن أن السوق تحتوي كل القيم كبضائع، وتضع التعبير الشخصي برسم البيع.
كما أمعن مالكوم جلادول في هذه السوق الرائجة بكتابه المشهور «نقطة التحول»، طارحاً أفكاره بالجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية وحصرها كلها تقريباً في المسألة التسويقية.. وصاغ ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور إلى بضاعتك أيا كانت ثقافية، فنية، أدبية، سياسية. هذه العوامل هي: عامل الشكل المؤثر: أي شيء يحبه المستهلكون؛ عامل اللصق بالذاكرة: أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ عامل قوة السياق: أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بالوضع. أما تشرز أندرسون مؤلف كتاب «الذيل الطويل» الذي يعد أهم كتاب في تجارة الإنترنت، وأكثرها تطبيقاً لنظريات توفلر فهو يبشر بالتفرد والابتكار وأن للجميع فرصاً متكافئة.
صحيح أن الإنترنت يمنح فرصاً كبيرة للمبدعين لكن بسبب طبيعته الترويجية التسويقية فهو يمنح أيضاً فرصة أكبر للإثارة الغوغائية. كثير من الذين حازوا على المراكز المتقدمة بالتصويت في الفضائيات ومواقع النت المشهورة والذين يحظون بالأكثر مشاهدة وتعليقاً في مواقع الصحف، والأكثر متابعة في تويتر والفيسبوك، في مجال ما لا يملكون أية خاصية أو ميزة إبداعية فيه سوى نجاحهم في التسويق على طريقة جلادول المشار إليها.
من هنا ذكر تيم أوريلي، رئيس إحدى شركات الإنترنت، أنه إذا كان الاتجاه للمدونات الإنترنتية التي تهتم بالتوجهات العامة، تميل نحو قيم معينة، فإن الناس سيتبعونها.. وهذه التوجهات يحركها رجال الأعمال وخبراء التسويق. ذلك ما جعل ليوتار يتخوف قبل أكثر من ثلاثين عاما من أنه إذا خضعت المعرفة للتجارة فإن الشركات الخاصة قد تسعى إلى التحكم في تدفق المعرفة، وتقرر من يمكنه الوصول إلى هذا النمط من المعرفة ومتى.
نعم الإنترنت جعل حياتنا أسهل وأسرع وأعلى كفاءة وفعالية ومتعة، لكن إذا كان مروجو ثقافة الإنترنت التجارية يرون أن الإنسان ومشاعره وثقافته وإبداعاته هي مجرد بضاعة تباع في السوق، ونجحوا تجارياً في ذلك؛ فهذا النمط التجاري أنتج أيضاً أمراضاً نفسية وحالات عنف شديد من جهة، وتكريس عولمي رأسمالي تضمن في طياته ظلماً اجتماعياً لطبقات فقيرة تزداد فقراً وطبقات غنية تزداد غنى.
الآن تحصل مزاوجة بين الخيال والواقع في الإنترنت، فإلى أية درجة يمكن للخيال تبديل الواقع؟ وإلى أي درجة سيؤثر ذلك في عقولنا وسلوكنا على المدى البعيد؟ إزالة الحدود بين الحقيقي والخيالي عبر أرضية تجارية ألا يعني تزييف الواقع وتحويلنا جميعاً إلى بضائع؟ المستقبليون الأمريكان يقولون تلك حتمية لا يمكن تبديلها، فبدلاً من النحيب ضد التلاعب بالحقيقة استمتعوا بالترفيه التكنولوجي.. إنهم على عجلة من أمرهم متلهفون لكسب الأرباح وبيع برامجهم..
alhebib@yahoo.com