كان مما أشير إليه في الحلقة الأولى من هذه المقالة ـ الأسبوع الماضي ـ أن عدد من فازوا، أو فزن، بجائزة الملك فيصل العالمية بلغ من ابتداء منحها، عام 1399هـ-1979م، حتى الآن 231. ومن هذا العدد خمس مؤسسات خيرية ومؤسسة علمية واحدة.
ومما أشير إليه، أيضاً، أن عدداً من الفائزين أو الفائزات بها في مجالي الطب والعلوم نالوا بعد فوزهم بها جوائز عالمية رفيعة المستوى على العمل نفسه الذي فازوا به بهذه الجائزة؛ خمسة عشر نالوا جائزة نوبل، وآخرون نالوا جوائز مضاهية لنوبل مكانة ورفعة؛ مثل الميدالية الوطنية للعلوم؛ وهي أرفع تقدير علمي وتُسمَّى نوبل الأمريكية.
وفي هذه الحلقة أود أن أشير إلى دور المرأة ومكانتها في جائزة الملك فيصل العالمية. والواقـع أن ذلك الدور وهذه المكانة واضحان جليَّان؛ سواء كانت مُحكَّمة أو عضواً في لجان الاختيار أو فائزة. وكثير من الناس يَهمُّه بالدرجة الأولى فوزها بالجائزة. لذلك يحسن إلقاء بعض الضوء على هذا الجانب بالذات. ولقد فازت بجائزة الفيصل تسع نساء بين من فازوا بها؛ وعددهم 229. وعددهن ـ مع ظهوره بأنه قليل ـ يفوق عدد من فزن بأَيِّ جائزة عالمية كبيرة أخرى؛ مثل نوبل، مقارنة بأعداد الفائزين بها من الرجال. والفائزات التسع هن: واحدة في الدراسات الإسلامية هي كارول هيلينبراند، وأربع في الأدب العربي هن: عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ووداد قاضي، وسلمى الكزبري، ومكارم الغمري، وأربع في الطب هـن: جانيت راولي، فرانسوا باري سنوسي، سينثيا كينون، جوهان بيليتي.
والحديث عن كُلِّ واحدة من الفائزات التسع وإنجازها على حدة يطول. لذلك آثرت أن أقتصر في الحديث، هنا، عن فائزتين فقط لما لِكلٍّ منهما من خصوصية واضحة جميلة. إحداهما عربية الأصل جنسية الفرنسية والأخرى أمريكية الأصل والجنسية. ومن أسباب هذا الإيثار في الحديث عنهما أن الأولى نالت ـ بعد فوزها بجائزة الفيصل ـ جائزة نوبل؛ إضافة إلى جوائز رفيعة أخرى. وأن الثانية نالت ـ بعد فوزها بجائزة الفيصل ـ الميدالية الوطنية للعلوم في أمريكا؛ وهي ـ كما ذُكِر سابقاً ـ تُسمَّى نوبل الأمريكية؛ إضافة إلى جوائز رفيعة أخرى.
أما العربية الأصل الجنسية الفرنسية فهي فرانسوا باري سنوسي. وقد فازت بجائزة الفيصل ـ بالاشتراك مع زميلين لها ـ عام 1413هـ/1993م؛ وذلك في موضوع “ مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز). وُلِدت في باريس عام 1366هـ/ 1947م، ونالت الدكتوراه من جامعة العلوم في باريس، ثم أكملت دراساتها لما بعد الدكتوراه في المعهد الصحي القومي للسرطان في الولايات المتحدة الأمريكية. وبدأت حياتها العملية في وحدة بحوث السرطان في معهد باستير الشهير بباريس حتى أصبحت مديرة لوحدة بيولوجية فيروسات رترو في ذلك العهد، كما عملت استشارية لهيئة الصحة العالمية في تونس. وهي حالياً أستاذة علم الفيروسات في معهد باستير، وعضو في لجنة الفيروسات بالوكالة الفرنسية لبحوث مرض الأيدز والجمعية الطبية لمستشفى باريس.
ولقد نذرت البروفيسورة سنوسي حياتها لدراسة مرض الأيدز في الإنسان، وقامت بدور رئيس في البحوث التي اكتشفت الفيروس المسبِّب لذلك المرض، وبيان خصائصه وتأثيرها على الخلايا والنظم المناعية في الجسم، وتطوير طرق جديدة لتشخيصها. ونُشِر لها أكثر من 220 بحثا، كما ألقت أكثر من 250 محاضرة في منتديات وجامعات عالمية كبرى، ومنحت وسام التفوق العلمي في فرنسا، وانتخبت عضوة في أكاديمية العلوم في نيويورك. ولذلك لم يكن غريباً أن منحت جائزة نوبل في الطب، عام 2008م، كما نالت أكثر من عشر جوائز قومية وعالمية أخرى، وكُرِّمت بوضع اسمها في قاعة المشاهير في المتحف العالمي لرائدات العلوم والتقنية في أمريكا.
وما زالت البروفيسورة سنوسي تواصل بحوثها الرائدة من أجل الوقاية من مرض الأيدز، وتسعى بِجدٍّ لإيجاد لقاح فَعَّال للتحصين ضده. كما تعمل على مساعدة الدول الفقيرة على التقليل من مخاطره. ومن هذا السعي إشرافها على إنشاء عدة مراكز للتدريب على تشخيص المرض ومكافحته في كمبوديا وفييتنام وتونس وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية الأخرى.
وأما الفائزة الثانية المُتحدَّث عنها، هنا، فهي البروفيسورة جانيت راولي الأمريكية الجنسية، التي نالت جائزة الملك فيصل العالمية في الطب عام 1408هـ/ 1988م؛ وذلك حين كان موضوع الجائزة ذلك العام “ سرطان الدم”. وقد وُلِدت في نيويورك عام 1925م، وتَفوَّقت في دراستها في صغرها، فقبلتها جامعة ميتشجان للدراسة المجانية في برنامجها الخاص بالمُتفوِّقين قبل أن تكمل دراستها الثانوية. وكان عمرها حينذاك 15 سنة. وبعد قضاء سنتين في تلك الجامعة انتقلت إلى جامعة شيكاغو حيث حصلت على بكالوريوس في الفلسفة وعمرها 19 سنة. ثم حصلت ـ خلال سنتين ـ على بكالوريوس ثان في العلوم. وبعد ذلك بسنتين أخريين حصلت على الدكتوراه في الطب من جامعة شيكاغو. ثم أمضت فترة زمالة في جامعة أكسفورد ببريطانيا. وسرعان ما تَولَّت مناصب علمية مُهمَّة في عدة مستشفيات ومراكز بحوث. وأصبحت، سنة 1977م، أستاذة كرسي بلوم ـ وايز المُتميِّزة بقسم الطب وقسم الوراثة الجزيئية وبيولوجية الخلية في جامعة ميتشجان.
وتَتجلَّى عظمة البروفيسورة راولي أكثر فأكثر في تَمكُّنها من أن تُوفِّق ببراعة نادرة بين عملها؛ طبيبةً وباحثةً وأستاذةً جامعية، وأُمًّا لأربعة أطفال، وأن تُحقِّق أعظم اكتشاف طبي لها وهي تعمل من منزلها، ولم تَتفرَّغ تَفرُّغاً كاملاً للبحث والتدريس في جامعة ميتشجان إلا بعد أن أكمل أصغر أطفالها الثانية عشرة من عمره.
قلت: أليس جديراً أن تَتأمَّل فتيات وطننا الكريم سيرة تلك العالمة العظيمة المراعية لبيتها وأطفالها حق التَّأمُّل؟
ولقد أجرت البروفيسورة راولي سلسلة من البحوث الرائدة حول سرطان الدم وسماته وطرق تشخيصه وعلاجه.
وقد أسهمت بحوثها المتواصلة لعدة عقود في إلقاء الضوء على كثير من الأسس الوراثية والجزيئية لسرطان الدم والأمراض الخطيرة الأخرى، وعَدَّتها الأوساط الطبية عبر العالم مُوسِّسةَ علم وراثة الأورام. وقد شاركت في العديد من الهيئات والجمعيات المُهتمَّة بالطب الوراثي والأورام الخطيرة، وفي هيئات تحرير عشر مجلات علمية وطبية، ونُشِر لها ما يزيد على 400 بحث في تَخصُّصها. ولإنجازات البروفيسورة راولي الرائعة لم يكن غريباً أن نالت ـ إضافة إلى فوزها بجائزة الملك فيصل العالمية ـ العديد من الجوائز الرفيعة. ومن هذه الجوائز جائزة لاسكر الشهيرة في الطب، وميدالية بنجامين فرانكلين للإنجازات المُميِّزة في العلوم، وجائزة جوبر في علم الوراثة، والميدالية الوطنية للعلوم، التي تُسمَّى نوبل الأمريكية، والتي قَلَّدها إيَّاها الرئيس الأمريكي عام 1999م، كما قَلَّدها ميدالية الحُرِّية عام 2009م؛ وهي أكبر تقدير مدني أمريكي. وإضافة إلى ذلك مُنِحت عدداً من زمالات الشرف في المؤسسات العلمية الكبرى؛ مثل الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، والأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم، كما منحتها عدة جامعات الدكتوراه الفخرية في الطب والعلوم. وما زالت ـ مع تجاوزها الثمانين من عمرها ـ تواصل عملها وبحوثها بنشاط في جامعة ميتشجان.