يُخلط غالباً ما بين العلمانية والليبرالية، رغم اختلافهما البيِّن؛ فالعلمانية فصل الدين عن السلطة، بحيث يقتصر الدين على العبادات دون تدخله في صناعة القرارات الدولية والقضائية وغيرها؛ هو حكر الدين في المساجد والصوامع وأماكن العبادة فقط.
أما الليبرالية فهي توجُّه يدعم تقبُّل الآخر وممارساته ومعتقداته تقبلاً يستدعي التعايش الكامل بجميع صوره الاجتماعية والاقتصادية وغيرها..
والليبرالية ليست ضد الدين بل هي إحدى مفاصل الدين الرئيسية؛ فقد حث الإسلام على التعايش وتقبُّل الاختلاف، والتاريخ الإسلامي زاخر باحتضان الاختلاف تحت جناح الاحترام والمساواة.
لكن ورغم الصورة المثالية التي يصوِّر بها الليبراليون أنفسهم لا بد للتطرف أن يطل برأسه؛ لأن التطرف لا دين له ولا مذهب، هو فقدان التحكم بتوازن المشاعر وردود الأفعال؛ لهذا بدأت تظهر على السطح ظاهرة تُسمى «الفردانية»، وهي حالة مفرطة من تقبُّل أي شيء، وأي ممارسة، وأي توجُّه فكري تحت غطاء الليبرالية!
إن اتخاذ موقف وتبني رأي لكل جزئيات الحياة من حولنا هو أحد روافد الوعي؛ فالجهل وجه آخر لغياب الرأي وتبعية المواقف. لكن حين يكون موقفنا هو تقبُّل واحتواء كل شيء فهو تأسيس للفوضى على أوسع أبوابها!
كل تنويري ووسطي يتفهم التعايش على أنه تكاتف بين أطياف المجتمع الواحد ومد جسور التواصل المثمر لهدف تحريك عجلة التطور وامتصاص كل نوازع الاختلاف التي تعيق مسيرتها. لكن أن نتقبل برضا كامل «كل شيء» تقبلاً وجدانياً من باب وهب الأحقيات لكل ممارسة حتى تلك التي تُعارض الذوقيات والتعاليم والفطرة فهو نزوع للامبالاة، تحول صاحبها من ترس فاعل في آلة المجتمع إلى مسمار انسل منه، وبقي وحيداً ومتبلداً وسلبياً!..
التعايش وتقبُّل الاختلاف لا يعني أن نترك الحبل على الغارب للمرضى والشواذ واللصوص والمفسدين واللاأخلاقيين.. ولا يعني أيضاً إقصاؤهم ونبذهم؛ إنما يعني أن نسعى لعلاج تلك الظواهر، إما بإعادة التأهيل عملياً في المراكز المتخصصة، أو نقدها بوضوح وحزم، مع الحفاظ على كرامة الإنسان وحقه في حياة كريمة.
الآن.. يصدف أن تلتقي أشخاصاً سلبيين، فقدوا حس الضمير في بوادر رفض القبح وشذوذ الفطرة والانحراف والمطالبة باحترام الجميع تحت شعار الليبرالية. وأنا أقول: لعمري لو طبقت ليبرالية كهذه لن نحصل على مجتمع متنوع الثقافات يحظى فيه الإنسان بحرية رأيه ومعتقده في حدود الدين والذوق؛ إنما سنحصل على خليط فاسد من المجرمين وعديمي التربية والشواذ، يحلحلون قيم المجتمع، ويسلبونه وقاره تحت اسم (الحرية)!
إني لستُ مع الغلظة؛ فالغلظة لا تبني مجتمعاً متعاوناً على درجة عالية من المسؤولية بقدر ما هي بوابة للتفرقة والتفكك. قال تعالى للرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلم {ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وتلك إحدى قواعد الالتحام. إنما أدعو لبناء موقف داخلي لنقد واضح بعيد عن مجاملة الفساد ومحاولة تقبله، لمحاولات حثيثة لإصلاحه بشجاعة. أدعو للتوازن؛ حتى لا تتحول الليبرالية إلى سلبية وفردانية وأنانية وموت ضمير!
وهي مطمح كل عاقل وطامح للتوازن.
kowther.ma.arbash@gmail.comkowthermusa@ تويتر