نحن السعوديين مصابون بالهوس بكل جديد، إلى درجة أننا نتكالب عليه بجنون، حتى لا نستغرب أن نكون أول من فعل كذا، وأكثر شعوب العالم باستخدام كذا، فمثلاً نحن أكثر الشعوب العربية استخداماً لموقع اليوتيوب، ثم تويتر، ثم أصبحت أمهاتنا وجداتنا يتنافسن على موقع الانستجرام، وينشرن صور أحفادهن، ووجباتهن، ثم تقاطر السعوديون شباباً وفتيات، على موقع كيك، وأصبح معظمنا يعتقد أن العالم ينتظر أفكاره ونصائحه، فظهر من بيننا الشباب العاطلون، والبنات العاطلات، الجميع يرغب بالتميز حتى لو كان تافهاً، وكما تبارى السعوديون على الظفر بمليون متابع في تويتر، تنافسوا من جديد على حصد المتابعين في كيك، خاصة أن كيك لا يحتاج إلى الكتابة مثل تويتر، وإنما مجرد فتح كاميرا الجوال، وتشويه أسماعنا بمقاطع مليئة بالسخف والبذاءة، وليت الأمر توقف عند مواقع مفتوحة للدهماء، بل ظهر أربعة من هؤلاء ضمن أحد برامج قناة الإم بي سي، القناة الأعلى مشاهدة في الوطن العربي.
فهل يعقل أن البرنامج الذي فتح جراحنا، وكشف همومنا بجرأة ووعي، واتهم وهدد وتوعّد، وأربد وأزبد، هذا البرنامج الذي حلمنا معه أن يتسمّر الناس في تمام الثامنة أمام الشاشة ليشاهدوا آلامهم في المرآة، البرنامج الذي حاكم الوزراء، ودافع عن المظلومين، وكشف البطالة، وإنصاف المرأة، ونافح عن الأيتام، هذا البرنامج الذي نهض مقدمه في مشهد درامي مؤثر كي يقبِّل رأس أحد الأيتام المظلومين في دور رعاية الأيتام، تخيلوا هذا البرنامج استضاف أسماء نكرات لا يعرفهم أحد، سوى من حمّل هذا البرنامج، أعني كيك، واشترك به، كي يرى حفنة من أبناء شعبه، هم أبعد الناس عن امتلاك الموهبة، فما هو مبرر مقدم البرنامج داود الشريان، لاستضافة مثل هؤلاء؟ هل هم موهوبون؟ أي موهبة يقدمها هؤلاء؟ الثرثرة المجانية، والسخرية والضحك، أم النصائح والآراء العادية النمطية؟
يكفي أن أحدهم حين سأله عمن يصوّره؟ فأجاب بلكنة لا تخفى على المشاهد: أطق الكيمرا وأصوّر! يا للسخرية، كم كانت مواهب عظيمة سيكون لها شأن أكبر، ظهرت قبل عقود، وحققت نجاحها على نطاق صغير، ثم ماتت، لكنها حتماً كانت ستكتسح العالم لو ظهرت في مثل هذا التوقيت، ورغم ذلك، أرى أن هذه المواقع هي حق ومتنفس للجميع، ولكن ليس أكثر من ذلك، لا أن تنتقل التفاهة والخفَّة إلى القنوات الفضائية المرموقة.
هل انتهت قضايا المجتمع المحورية كي ينصرف برنامج الثامنة إلى مثل هذا العبث؟ ألم يقاطع داود المشاركين في قضايا جوهرية بحجة الوقت الذي انتهى، لماذا لا يفتح موضوعات كهذه مرة وأخرى وثالثة؟ خاصة إن قضايا وطنية ما زالت قائمة كالبطالة، وأزمة السكن، وعدم توفر أسرة المستشفيات، والنقل المدرسي، وتهجير المدرسات، و... و... إلخ.
لتكرر يا داود قضاياك الحساسة، ومع ضيوف آخرين، ولتترفع بذائقتنا وهمومنا وأوجاعنا عن هذه الموضوعات الساذجة والمتواضعة.