الانفتاح المعرفي الفكري بات سمة رئيسة من سمات العصر على المستوى الكوني، والتفاعل الحضاري الذي يشهده العالم اليوم لم يشهد له مثيلاً من قبل، أملته جملة من التغييرات الكونية الفكريَّة والمادِّية، لم يعد من الممكن لمجموعة بشرية أو لدولة ما أن تعيش في معزل عن بقية العالم ودون أن تُؤثِّر أو تتأثَّر بمختلف التغييرات الحادثة. فالفكر الإنساني المعاصر لا شكَّ أنه يمثِّل محصلة التجارب الإنسانيَّة الفردية والجماعية عبر مختلف العصور، وما مرّ به من تطورات قادت إلى الصورة الفكريَّة والحضارية السائدة في الفكر الإنساني المعاصر. قد يَتَّفق الباحثون في الفكر الإنساني على تحديد مصادر المعرفة الفكريَّة الإنسانيَّة السائدة على أربعة مصادر رئيسة تتمثل في:
1 - المصدر الديني وتنسب إليه المعرفة الدينيَّة والمستمدَّة من الرِّسالات السماوية وغيرها.
2 - المصدر العلمي وتنسب إلى العلوم على اختلافها، التي تمثِّل حصيلة الخلاصات على مستوى نتائج البحوث والتجارب العلميَّة في مختلف العلوم.
3 - المعرفة الفلسفية التي تقوم على تصورات ذهنية منطقية تسعى إلى تفسير الواقع، أو تقديم تصور ذهني يسعى العقل لبنائه على أرض الواقع.
4 - المعرفة الإبداعية أو الفنيَّة.
إن تفاعل هذه المصادر المعرفية وتكاملها أو تنافرها في بعض الأحيان، وانفتاحها أو انغلاقها عن بعضها البعْض قد ترك أثره على مسيرة تشكيل المعرفة الإنسانيَّة على مستوى العالم، وعلى مستوى الجماعات القومية، أو على مستوى الفرد ووعيه بنفسه والآخر، في ظلِّ ثورة الاتِّصالات والمواصلات التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين والتطوُّرات المعاصرة على مستوى تكنولوجيا المعرفة والمعلومات بات (الانفتاح المعرفي الإنساني سمة العصر) (والانغلاق المعرفي بات سمة من سمات الماضي) المتعارض مع جملة المُتغيِّرات الإقليميَّة والكونية فكريًّا وماديًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًا... إلخ، من حقول العلاقات الإنسانيَّة الفردية والقومية والدوليَّة، وقد بات يمثِّل الانفتاح المعرفي المبني على تعدد مصادر المعرفة بأشكالها وأنماطها لدى الفرد والمجتمع أساس البناء الفكري والثقافي للفرد وللمجتمع على السواء، وطبع المجتمع الواحد والمجتمعات المختلفة بسمة التنوّع والتعدد الثقافي والفكري والمعرفي.
الانفتاح المعرفي بات يمثِّل حالة التوازن الفكري لدى الفرد والمجتمع على السواء، كما أسس إلى معرفة أكثر دقة للذات وللآخر، سواء كانت هذه الذات فردًا أو جماعة، وسواء كان هذا الآخر أيْضًا فردًا أو جماعة، وأصبحت تمثِّل هذه الحالة من التوازن الفكري شرطًا أسياسيًّا للتطوّر والتقدم الفكري والماديّ على مستوى الفرد والمجتمع، مما يقود إلى تطوّر العلاقات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة باتجاه الحدّ من الصراع الداخلي وتهذيبه باتجاه إقرار وضع اجتماعي أكثر ميلاً نحو العدالة الاجتماعيَّة والحرِّية الفكريَّة على أساس من التنوّع والتعدد في إطار الحفاظ على وحدة المجتمع وتفاعله مع المجتمعات الأخرى كوحدة اجتماعيَّة واحدة.
في مقابل الانفتاح المعرفي تبرز قوى متضررة مما يحدثه الانفتاح على مستوى الفكر وعلى مستوى البنى الاجتماعيَّة وعلاقاتها الداخليَّة والخارجيَّة فتقف موقفًا معارضًا أو معاديًا تجاه أيّ من التحولات والتغيِّرات المجتمعية السياسيَّة والاقتصاديَّة والسلطوية، مما ينتج لديها حالة من الجمود والانغلاق الفكري يتغذى بمصدر أو نمط فكري واحد من أنماط المعرفة الفكريَّة، ويتمترس خلفها أو تحت ستارها ليبرر استمرار مصالحه التي أسقطها الانفتاح الفكري وآلياته القائمة على التفاعل الفكري من مصادره الأربعة، وتفاعله الإنساني على مستوى الذات والآخر، وهذه القوى تقف عادة في وجه كل تغيير يُهدِّد امتيازاتها القائمة، فيصبح الجمود الثقافي والفكري لديها ميزة تدافع عنها، وتخلق لها المبررات لاستمرار امتيازاتها وسلطاتها الاجتماعيَّة وغيرها، وقد يقود انغلاقها الفكري إلى جمود المجتمع وتخلفه أو إلى تمزق الوحدة الاجتماعيَّة إلى قوى تجاري الانفتاح وأخرى تعارضه، وبالتالي تُهدِّد وحدة نسيج المجتمع، ما يتيح المجال أمام هذه الحالة لظهور أعراض أمراض فكريَّة ومجتمعيَّة قد تصل إلى حالة من الغلوّ والتطرف الفكري الذي يُؤدِّي إلى استخدام العنف في وجه الآخر، وينفرط العقد الاجتماعي للمجتمع والدَّوْلة بين محافظ لا يريد التغيير، وبين منفتح يسعى إلى التغيير والتطوير، وبالتالي لا بد من ضبط إيقاع التغيير الحتمي للمجتمع على مستوى العلاقات الإنسانيَّة في المجتمع الواحد على أسس من الحوار الإِنساني، والقائم على المبدأ الأساسي في الحوار الذي أرساه قوله تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حتَّى تتم عملية التحوّل والتغيّر التي تفرضها سنن الكون بصورة سلسة وسلمية بعيدًا عن العنف الداخلي الذي قد يُهدِّد المجتمع أو العنف الخارجي الذي قد يُهدِّد بنشوب الصراعات والحروب بين الدول والجماعات المختلفة، إن الجماعات الفكريَّة المنغلقة فكريًّا هي ذات فكر أحادي المصدر والشكل والنَّمط، ويقود لا محالة إلى إنتاج شكل معرفي جامد مغلق، وبالتالي إلى مجتمع جامد مغلق عاجز عن التفاعل مع المجتمعات الأخرى ولا يستطيع الاستفادة من تجاربها ومن تطورها وتتشكّل لديه نظرة الخوف والريبة من الآخر والخوف على الذات، ويضع نفسه في حالة من حالات المواجهة مع الذات ومع الآخر مما يؤسس إلى نظرة الكرهية للآخر، كما تُؤدِّي عادة إلى محاولة إعادة إنتاج أنماط معرفية وحياتية ماضوية تتعارض مع سنة التغيير والتطوير التي فطرت عليها البشرية مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض}.
فالانفتاح المعرفي يعد ضرورة لمواكبة الفطرة الإنسانيَّة، ومواكبة جملة المُتغيِّرات والتحوّلات التي يشهدها العالم باستمرار، وضرورة لاستيعاب حركة التقدم والتطوّر في كلِّ الميادين الحياتية على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، الذي يمثِّل سمة العصر.
E-mail:pcommety@hotmail.comعضو المجلس الوطني الفلسطيني - الرياض