يطير علماء الآثار فرحاً عندما يعثرون على عظم متحجر أو جمجمة متكلسة أو بقايا عمود فقري تحولت إلى حجر جيري. يأخذون في تقليب ما وجدوه وتصويره بالأبعاد الثلاثة وأخذ القياسات بالملمتر، ويسهرون الليالي الطوال يتبادلون الملاحظات والاستنتاجات عن حيوان أو إنسان هذه العظام، كم عمره، كيف كان يتحرك، ماذا كان يأكل، وما نوع تعامله البيئي؟ إلى آخر اهتماماتهم المضنية لفك أسرار الأزمنة القديمة. أما حين يجدون إناء فخارياً أو قلادة من الخرز أو قرطاً نحاسياً أو رأس رمح مدبب فقد يستخفهم الفرح والطرب بحيث لا يأتيهم النوم تلك الليلة لشدة التفكير في مصادر هذه اللقى ومدى أهميتها في تصور الحياة التي عاشها أصحاب تلك البقايا في أزمنتهم الغابرة.
المتوقع في علم الآثار عند العثور على تجمع عظام حيوانات مع عظام بشرية مع أدوات صيد مع بقايا رماد، أن يتساءل الآثاريون: أها، إذن كان هنا بشر يعيشون على صيد الحيوانات المعينة بأدوات الصيد الفلانية وقد اكتشفوا النار، فهم إذن كانوا يشوون اللحوم عليها ويتدفؤون أيضاً.
الآن يستطيع الآثاريون بآلاتهم الحديثة تحديد الأجناس والأصول العرقية والخلفيات الوراثية لكل ما يعثرون عليه تقريباً. يستطيعون أيضاً تحديد مصادر اللقى والمتحجرات وكل شيء. بناء على ذلك دعونا نتخيل الاستنتاجات التي قد يتوصلون إليها في المستقبل البعيد أثناء تنقيبهم في صحرائنا العربية عن نوعية الحياة والسكان والمهن والحرف والعادات الغذائية والصناعات ووسائل التنقل، إلى آخر النشاطات البشرية التي كانت سائدة هنا بعد أحقاب طويلة من الآن.
أعتقد أنه حينذاك لن يواجهوا مهمة سهلة ولذلك سوف يهرشون رؤوسهم طويلاً أمام الخلطة العجيبة الغريبة التي عثروا عليها في صحرائنا الحبيبة ولم تكن تخطر لهم على بال.
في مجالات التطور البشري وعلوم الأجناس والسلالات سوف يصاب علماء الآثار بالذهول والعجز عن التصنيف القائم على أسس منطقية. سوف يجدون هياكل عظمية ودلالات وراثية تعود لمئات الآلاف من الأجناس والسلالات المتحدرة من شبه القارة الهندية والبنغال مختلطة مع سلالات أجناس من شرق آسيا ومن أفريقيا، وسوف يجدون بقايا بشرية تعود لكل قارات الأرض، مع أعداد متواضعة نسبية من البقايا العائدة لسلالات أهل البلاد الأصليين الذين كانوا يسمون العرب. لن يكون أمامهم مناصاً من الاستنتاج إما أن حرباً طاحنة قامت هنا في الزمن القديم وشاركت فيها كل قارات وسلالات الأرض، أو أنه حدث زحف جيولوجي قاري كوم كل القارات الست فوق بعضها في هذه البقعة بالذات. لن يكون بإمكان أي واحد من علماء آثار المستقبل التفكير بأن كل هذه الأجناس المطمورة مع بعضها وصلت إلى هذا المكان عن طريق مكاتب الاستقدام لتؤدي أعمالاً لم تكن أصحاب الأرض الأصليين يريدون القيام بها.
أما عن اللقى والمخلفات الغذائية والصناعية التي سوف يفاجؤون بها فحدث ولا حرج. متحجرات من الأسمنت والحديد والألمونيوم والبلاستيك والمطاط والمواطير والمواسير والطواقي والقبعات والبناطيل والثياب والعباءات... باختصار سوف يعثرون على بقايا كل شيء استطاع كل البشر صناعته في تلك الأزمنة البعيدة. ماذا عن آثار المياه التي سوف يعثرون عليها وكيف سوف يحللونها علمياً. بقايا البيارات والمسابح والمجاري والأنابيب المتحجرة في باطن الأرض ربما سوف تجعلهم يستنتجون أن هذه الأرض كانت قديماً تعيش على ضفاف البحيرات والأنهار ثم ضربها الجفاف. لن يفهموا الإهدار المائي الذي كانت تعيشه هذه المنطقة الجافة منذ آلاف السنين من قبل. الله يكتب اللي فيه الخير، قولوا آمين.