الإنسان في التعريف كائن ذكي. وذكاء الإنسان في جزء منه يولد معه منذ تكوينه، لكن هذا الجزء الفطري هو الجزء الأقل جداً من مجموع حصيلة ذكاء الإنسان، في حين أن الجزء الأكبر من الذكاء مُكتسب، لا يمكن أن يأتي إليه بدون تجارب ذاتية واستفادة من تجارب الآخرين.. هب أن إنساناً ولد في معزل عن مجتمعه وليس له البتة أيَّ تواصل مع أحد، هل سيكون ذكاؤه - مهما كان ذكاؤه الفطري - مثل ذكاء من تواصل مع الآخر، واطّلع، وتكونت لديه ذاكرة تراكمية من تجارب الآخرين إضافة إلى تجاربه؟.. طبعاً لا؛ فالتجربة الشخصية، وتجارب الآخرين، منها يستمد الإنسان قدرته على الذكاء والابتكار والتحليل ومعالجة ما يواجهه من صعاب وتحديات، فيكون أقدر على التمييز بين الصالح والطالح؛ وعليه فإن من المنطق القول: إن ثمة علاقة طردية بين تواصل الإنسان مع من حوله وبين قدراته الذهنية والتحليلية واختيار ما هو نافع؛ فكلما كان متفتحاً ومطلعاً وقادراً على التواصل مع الآخرين والاستفادة منهم، كلما كانت قدرات ذكائه ووعيه وفهمه للآخر أكبر، والعكس صحيح تماماً.
شبكات التواصل الاجتماعي، وما يكتنفها من حوار ونقاشات وجدل، بل وخصام في أحايين كثيرة، من شأنها أن تصقل ذهن الإنسان، وترفع من مستوى تواصله مع الآخرين، وتجعله يطّلع على تجاربهم، ومقولاتهم، ووجهات نظرهم، وأدلتهم، وحججهم؛ ما يرفع في النتيجة من مستوى ذكائه المُكتسب، ويزيد من اتساع أفقه، وقدرته على امتلاك آليات التحليل؛ الأمر الذي يجعله في النتيجة متفتحاً رغماً عنه، وعقلانيا وإن لم يرغب في العقلانية، وموضوعياً وإن كابر في البداية، ومستقلاً في اتخاذ الموقف الذي يتلاءم مع واقعه. وعندما يتجه الإنسان إلى تحكيم عقله، ويتفهم الموضوع الذي يطرح أمامه، ويسمع حجج الآخرين، يبعد في الغالب - وليس بالضرورة دائماً - عن التعصب والتزمت، ويكون مستعداً لتفهّم وإدراك بواعث من اختلف معه، وقياس مدى معقولية حججه أكثر من ذي قبل. ولا بد من الاعتراف أن مشكلتنا في المملكة هي (الانعزالية)، أو بلغة أخرى أدق (النكـوص نحــو المحلية) والمحافظــــة عليهـــــا، ولا يمكن أن نكسر هذه العزلة، ونخرج من قمقم المحلية، ونتعايش مع الآخرين في عالمنا الذي يصغر مع مرور الوقت، إلا من خلال التعرف على الآخر بمعناه الواسع؛ وهذا ما أتاحته لنا - (نحن السعوديون) - شبكات التواصل الاجتماعي؛ بل وزادت في إيقاع وسرعة التغيّر والتطور وتفهّم رؤى وأفكار الآخرين؛ فإذا كان الإنسان يحتاج في الماضي لسنوات كي يتغيّر يحتاج اليوم إلى أشهر وربما أقل؛ فطوفان المعلومات الهائل الذي يتدفق من هذه المبتكرات الحضارية المعاصرة كفيلٌ بأن يغسل أطناناً من الكلس إذا ما تكدّس على أذهان البشر، شاء المتكلس أم أبى.
صحيح أن هناك كماً من الآراء والأفكار والشائعات تحملها بعض المعرفات في شبكات التواصل الاجتماعي غير صحيحة، أو أنها مغرضة، أو ذات أهداف تخريبية، لكن هذه طبيعة مخترعات العصر، فأي مخترع حديث له إيجابيات مثلما أن له في المقابل سلبيات، والجيد ما فاقت إيجابياته سلبياته؛ وليس من العدل أن ترى السلبيات وتتجاهل الإيجابيات في أحكامك.
إن وسائل الإعلام الجديد، ويأتي في مقدمتها تويتر والفيس بوك، أصبحت حقيقة ثابتة، لا يمكن لإنسان العصر إلا أن يتعايش معها، وليس لدي أدنى شك أن الخاسر الوحيد من هذه التقنية الحضارية هم دعاة التكلس والانعزالية؛ فهي تلغي الأسوار بين الثقافات، وتتيح لك أن تصل إلى المعلومة متى ما أردت كما هي دون تشويه أو تغيير، فيمكن لأي إنسان في مجاهل إفريقيا - مثلاً - أن يتعرف عن كثب، وبنفسه، على ما كان في الماضي يحتاج إلى جهد جهيد لكي يصل إليه ويتعرف على كنهه.
إلى اللقاء.