ربما يتفق معي الكثيرون أن أكثر القيم الإنسانية جدلاً في الواقع المعاصر، وعلى ميادين الإعلام المختلفة، وبين الشعوب المتباينة في سلم الحضارة هي قيمة (الحرية)، رغم وجود قيم أخرى لا تقل أهمية في حياتنا كالعدالة والمساواة وغيرها،
.. خصوصاً أن الغرب الذي يتفوق حضارياً ويقود عالم اليوم على كل المستويات المدنية قد جعل فلسفته المادية في الحياة متلازمة لقيمة الحرية عندما ابتكر (الليبرالية) كنظرية في الحرية خلال تجربته التاريخية. فهل انتهت (الحرية) إلى المستوى الذي يُحقق كرامة الإنسان ويُلبي متطلباته الحضارية؟، بحيث أصبحت المفتاح السحري لأي شعب يتطلع للنهضة، أو الخلاص لأية أمة من تردّيها الحضاري، ومن ثم اللحاق بالركب الإنساني للمساهمة الفاعلة في عمارة الأرض، والمشاركة في غزو الفضاء.
بتقديري، أن العالم الغربي نجح في إعلاء شأن الليبرالية كفلسفة حضارية ونموذج حياة، من خلال تكريس قيمة (الحرية) وجعلها المحرك الرئيس في عجلة نهضته وهو يصنع حضارته الزاهرة على مدار سبعة قرون تقريباً، لكنه لم يستطع أن يضع الحلول الواقعية الناجعة لمشاكل العالم الحقيقية، الذي مزقته الحروب بسبب تضارب المصالح ونوازع الماضي واختلاف الثقافات، لأن هذا الغرب لم يستطع حتى الآن أن يفصل بين (النزعة) الاستعمارية، التي ما زالت تحكم طبيعة حضارته المادية، وبين الأبعاد الإنسانية الحقيقية في قيمة (الحرية)! التي تتمثَّل في الكرامة والعدالة والمساواة والخيرية. من هنا يُمكن القول: لقد تحقق للفرد (الغربي) حريته الإنسانية على شتى الأصعدة الحياتية والمجالات التنموية، ولكن لم تتحقق للإنسان في العالم حريته الفردية.. فما سبب ذلك؟
فبالنظر للحياة الغربية المرتبطة بالحرية في كل تفاصيلها اليومية وأنماطها السلوكية وعلاقاتها الإنسانية، نجد أن هذه الحرية المقدسة عند الغربيين لدرجة العبادة، قد وقعت بين (الازدواجية) في الممارسة والتطبيق، و(الانتقائية) في الأحكام والمواقف، ومن ثم قياس كل ذلك وفق (معيارية) نفعية معينة يراها الغرب! ما يعني أن الفكر الليبرالي الغربي قد فرّغ الحرية من قيمتها الإنسانية العليا فصارت أُلعوبة انتخابية في يد السياسيين، وأنشودة نخبوية لدى المثقفين، وضحية لنظريات الاقتصاديين، ومادة خبرية عند الإعلاميين، ولأن الإنسان الغربي قد وقع أسير الفردية المتطرفة لدرجة الأنانية المفرطة، فلا يهمه هل شعرَ الإنسان في أي مكان بالعالم بهذه (الحرية)، أو ذاق رحيقها، أو شم على الأقل نسيمها! لذلك تأتي ردود أفعال الإنسان الغربي باردة وغير تفاعلية إزاء احتجاجات الآخرين عندما تُنتهك مقدساتهم الدينية أو خصوصياتهم الثقافية باسم الحرية، التي وقعت وتقع كل يوم صريعة بين (الازدواجية والانتقائية والمعيارية).
ازدواجية تطبيق الحرية وممارساتها في الحياة الغربية لم تعد خافية على أحد، أو غامضة عن الفهم، أو مادة اختلاف في الرأي بين النفي والإثبات، فالوقائع حاضرة في الذاكرة العالمية، خصوصاً في ظل الانفتاح الإعلامي الفضائي والانتشار الإلكتروني الذي ألغى الحدود الجغرافية وكسر القيود الرسمية، ولعل أبرز مثال لتلك الازدواجية في ممارسة الحرية سواءً الفكر أو التعبير هو قيامة الغرب على كل من يُعادي (السامية)، أو ينكر (المحرقة النازية لليهود)، ما يعني أن قوانين الغرب لم تعد تحمي دين اليهود أو عرقهم، بل شمل ذلك تاريخهم، لدرجة أنك تستطيع أن تكتب كتاباً أو تنتج فيلماً للتشكيك في ألوهية المسيح التي هي صلب عقيدة، ولكن لا تستطيع فعل ذلك مع محرقة اليهود في أفران النازية (الهولوكوست)، حتى لو كان من قبيل الدراسة التاريخية وليس التشيك العلمي كما حدث مع المفكر الفرنسي رجاء جارودي في المحاكم الفرنسية.
أما (الانتقائية) فهي تبدو جلية في مواقف الغرب وأحكامهم على الآخر، خصوصاً في القضايا السياسية العالمية المرتبطة بالمصالح القومية لهذا البلد أو ذلك! وهذا يبدو جلياً في موقف دول الغرب من ثورات الشعوب العربية، حيث تجلت الانتقائية في أبشع صورها بالاندفاع الغربي المحموم في دعم الشعب الليبي عسكرياً حتى سقط الطاغية القذافي، أو في دعم التدخل الفرنسي العسكري في مالي، بينما ما زال هذا الغرب يسكت على جرائم نظام الأسد المنقولة بالصوت والصورة، تحت ذرائع منح الدبلوماسية ودول الجوار الفرصة لإقناع الأسد بالتنحي، وهذا يُذكّرنا بموقف مشابه للغرب في نصرة مسلمي كوسوفا ضد الصرب، في مقابل سكوته على ذبح الإنسان المسلم في بورما! لأنه يريد أن يستغل ورقة المأساة الإنسانية هناك لإجبار جمهورية ميانمار من قطع أية علاقات مع كوريا الشمالية، كما أن انتصار الغرب لكوسوفا كان بدافع القضاء على بقايا الكتلة الشيوعية في البلقان.
هذه الانتقائية لم تنحصر في المواقف السياسية أو الإجراءات العسكرية، بل شملت أحكام الغرب على الآخر، ما جعلها تنتقي في تصنيفاتها بين ما هو إرهابي أو مسالم، فصار إريل شارون حمامة سلام، ويحيى عياش مهندس إرهاب.
أما (المعيارية) فهي قياس القيم الإنسانية، التي تشترك بها الأديان والثقافات وفق المفهوم الغربي النفعي الخاص، والمتسق مع فكرته الليبرالية النابعة من فلسفته المادية، فالإنسان ليس حراً أو يتمتع بالحرية إلا وفق اشتراطات المعيار الغربي الحضاري للحرية، وهذا ما دفع حكومات غربية كالولايات المتحدة إلى شن العدوان على العراق بمعاونة حلفائها الأوربيين لفرض القيم الأميركية أو الغربية عموماً، التي يرون أنها تحرر الإنسان من الاستبداد حتى لو كان بلده محتلاً، أو محكوماً باستبداد آخر يمرر مصالح الغرب الاقتصادية كما يفعل المالكي اليوم.
أخلص إلى أن (الحرية) قيمة إنسانية عظيمة تتطلع إليها كل شعوب العالم وأمم الأرض، لكن هذه الحرية يمكن أن تتحول إلى قيود أو أغلال إذا وقعت صريعة الانتهازية الحضارية أو الممارسات الشيطانية.
moh.alkanaan555@gmail.comتويتر @moh_alkanaan